يعرف البحر الأحمر عبر التاريخ بكونه ميزانًا يكشف من يملك زمام المبادرة، ومن يتكئ على ضجيج القوة أكثر مما يستند إلى حقيقتها. وفي لحظة فارقة من صراع الإرادات، أعاد اليمن رسم معادلات البحر بصلابة فعل هزّت أعمدة الهيمنة البحرية التي ظنّت واشنطن أنّها أبدية.
في السنوات الأخيرة، بدا العالم كما لو أنّه يتغيّر من حافته البحرية. فالموجة التي انطلقت من صنعاء كانت بمثابة إعلانًا جريئًا عن ميلاد قوة جديدة تفكّك الأسطورة الأمريكية قطعةً بعد أخرى، وتكشف هشاشة "الإمبراطورية" في أدقّ مفاصلها: الإمداد، القدرة على الصمود، وفاعلية التقنية حين تواجه إرادة خصم يعرف كيف يبتكر من قلب الحاجة.
ومع كل تقرير غربيّ جديد من مراكز الأبحاث العسكرية إلى المعاهد الاستراتيجية يتّضح أن الحرب أصبحت حرب رؤية، وحرب قدرة على تحويل الجغرافيا إلى منصة قوة. هكذا، تحوّل اليمن الذي كان ينظر إليه باعتباره الحلقة الأضعف إلى عقدة صلبة في حلق واشنطن، وخصم يعيد تعريف معنى المواجهة ويفرض على الأمريكيين مراجعة نظريات البحار التي ظلت ثابتة لعقود.
اليوم، حين تعترف تقارير البحرية الأمريكية بالتفوّق اليمني في الابتكار البحري، وحين تحذّر مراكز القرار من فشل الهيمنة في البحر الأحمر، فإنّ هذا الاعتراف لا يأتي من باب المجاملة، بل من باب ضرورة فهم الهزيمة قبل أن تتكرّر بصورة أشدّ، وضرورة إدراك أن زمن الحروب الخطية قد انتهى، وأنّ خصوم واشنطن الجدد لا يقاتلون بميزانيات فلكية، بل بعقيدة راسخة وذكاء ونَفس طويل، وبقناعة تعيد تعريف معنى الردع.
يكشف هذا التقرير بابًا واسعًا على التحوّل الاستراتيجي الذي فرضه اليمن بحرًا وبرًا وسياسة ويكشف، عبر سلسلة من الشواهد والتقارير الدولية، أنّ اللحظة الراهنة تمثل منعطفاً يعيد صياغة موازين القوى من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي. وبقدر ما تحمل من تفاصيل عسكرية دقيقة، تحمل كذلك دلالات نهاية عصر وبداية آخر، تتراجع فيه الإمبراطوريات حين تتصدّع قدرتها على حماية شرايين قوتها، ويتقدّم فيه من يحسن قراءة المعركة وصوغها بمعادلاته الخاصة.
هكذا، يقف البحر الأحمر اليوم كمرآة كاشفة يخبو فيها بريق القوة التقليدية، وتسطع فيها براعة المقاتل اليمني الذي طوّع البحر ليكون حليفه، وجعل العالم يدرك مرغماً أن قوة الإرادة قد تُسقط ما لا تسقطه جيوش النووي وحاملات الطائرات.
في إقرار رسمي جديدٍ يعكسُ تحوُّلًا جوهريًّا في موازين القوة البحرية، اعترف معهدُ البحرية الأمريكي بأن القوات المسلحة اليمنية تُعدّ من أكثر القوى ابتكارًا وفعاليةً في الساحة البحرية العالمية اليوم.
وجاء في تقرير حديث للمعهد العسكريّ أن الجيشَ اليمنيَّ -رغم افتقاره إلى أسطول بحري تقليدي- نجح في فرض نفسه كأكثر القوى البحرية نشاطًا وابتكارًا عبر سلسلة من العمليات الذكية التي أربكت التفوق التكنولوجي الأمريكي.
التقرير حَـــضَّ وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) على إطلاق مبادرة عاجلة تحت مسمى “الاختبار في البحر الأحمر”، تعتمد على نشر زوارق سطحية غير مأهولة (USVs) لمواجهة التهديدات اليمنية؛ بهَدفِ خفض التكاليف، وتقليل المخاطر البشرية، وتسريع وتيرة الابتكار العسكري.
ولفت إلى أن أمريكا أنفقت أكثر من مليار دولار في محاولات فاشلة لفرض هيمنتها البحرية، دون أن تتمكّن من احتواء الهجمات اليمنية التي اتسمت بمرونة تكتيكية عالية وقدرة استثنائية على التكيف.
ويأتي هذا التقييم في أعقاب سلسلة إخفاقات عسكرية مُحرجة للأساطيل الأمريكية خلال مواجهاتها مع القوة البحرية اليمنية على امتداد 18 شهرًا، انتهت بانتصار استراتيجي لصنعاء وتحول البحر الأحمر من “ممر ملاحي آمن” إلى “ميدان حرب فعلي“. وبحسب التقرير، فإن هذا التحوّل يفرض على الولايات المتحدة مراجعة جذرية لاستراتيجيتها البحرية؛ إذ لم يعد بإمْكَانها التعامل مع المنطقة كمنطقة عبور روتينية، بل كاختبار حاسم لقدراتها في مواجهة خصم قادر على إحداث اختلال استراتيجي في قلب الممرات البحرية الحيوية.
كما أشار التقرير إلى احتمال سعي واشنطن لاستغلال هذا “الواقع الجديد” كفرصة لتجريب أسلحة وتقنيات بحرية متطورة، على غرار ما حدث في أوكرانيا، مع محاولة إشراك دول إقليمية مثل مصر والسعوديّة تحت شعار “أمن الملاحة”، رغم فشل مبادرات سابقة مثل “تحالف الازدهار” في تحقيق أي تقدم ملموس.
وخلُص التقرير إلى تحذير صريح: إن القوة البحرية اليمنية لم تعد تهديدًا محليًّا، بل أصبحت عاملًا مؤثرًا في إعادة تعريف مفاهيم الهيمنة البحرية خلال العقد المقبل؛ ما يضعُ الولايات المتحدة أمام مفترق طرق استراتيجي قد يُعيد ترتيب أولوياتها في المحيط الهندي والبحر الأحمر على حَــدٍّ سواء.











