ذاكرة اليمن الوثائقية بين يدي الله

ذاكرة اليمن الوثائقية بين يدي الله

د. حمود الاهنومي

توفي أمس الأول الجمعة القاضي العلامة علي بن أحمد أبو الرجال، ذاكرة اليمن الوثائقية، ومؤسس ورئيس المركز الوطني للوثائق.

لقد أسس القاضي هذا المركز عام 1985م، ورأسه حتى وفاته، واستطاع بعلاقاته الشخصية أن يوجده من العدم، ويبدأه من الصفر، حتى بات اليوم مؤسسة كبيرة تحتفظ بعشرات الآلاف من الوثائق الهامة في تاريخ اليمن.

القاضي الذي عرفته مباشرة في 2017م يوم كنت أجمع مادة كتاب (مجزرة الحجاج الكبرى في تنومة)، وزرته في مكتبه بمعية سيدي الأستاذ الفاضل علي محمد يحيى الذاري، وروى لي بعضا من القصص التي عرفها وسمعها عن آخرين بشأن هذه الحادثة، وأعطاني النسخة الإنجليزية من كتاب الوثائق البريطانية عن اليمن، وظفرت فيها بوثيقتين عن المجزرة، كما قدم لي النسخة المخطوطة والكاملة من كتاب “نزهة النظر” للمؤرخ العلامة السيد محمد بن محمد زبارة رحمه الله، التي ظفرت فيها بمعلومات كثيرة عن المجزرة، تم حذفها وإخفاؤها في النسخة المطبوعة.

وكان مما قاله لي: إن كثيرا من النجديين قساة، وأهل غلظة وفظاظة، وأنهم كانوا إذا أرادوا أن يؤرِّخوا لأعمار أولادهم، فإنهم يقولون عنه: بأنه بات قادرا على قتل الحاج!!.

وأخبرني أنه روى عن السيد علي المرنّة من أهالي صنعاء القديمة أنه حضر في حج عام 1352م، حينما طلب منه الثوار الفدائيون من آل الحاضري المشاركة معهم في عمليتهم ضد عبدالعزيز آل سعود، قائلين له صباح ذلك اليوم: (يا ابن الجدَّين هيا معنا، اليوم يوم النقاء)، ثم رآهم وهم ينقضَّون على عبدالعزيز بن سعود كالصقور الضارية، ويصيح قائدهم بصوت عال: (أنا الحاضري والحاضر الله)، فقتلوا وجرحوا عددا من حراسته، وجرحوا ابنه سعود أيضا، قبل أن يتم رميهم بالرصاص من قبل حرس ابن سعود.

في عام 2018م، كنا مع القاضي في الصف الأول في إحدى صالات فندق تاج سبأ نحضر ندوة ثقافية وفكرية، بالقرب من مقر عمله (المركز الوطني للوثائق)، وإذا بنا نسمع صوت انفجار قريب منا، ثم بعد دقائق دوَّى انفجار كبير أيضا، وحينها اتضح لنا أن طائرات العدوان السعودي الأمريكي الإماراتي أغارت على مقر مكتب رئاسة الجمهورية الذي يضم مقر (المركز الوطني للوثائق)، وهو مكتظ بالموظفين والعاملين، وكادت تلك الغارتان أن تتلف أن كثيرا من الوثائق اليمنية في المركز.

كان من حسن حظ القاضي وبعض من معاونيه أنهم كانوا يحضرون الندوة في الفندق المجاور للمركز، ولكن ما فات القاضي في المركز لم يفته في الفندق؛ إذ تسبَّبت قوة الانفجار الهائل في تخريب زجاجات الفندق، ومزهرياته، ونزلت مزهرية كبيرة على أم رأس القاضي، وكادت أن تلحق به ضررا بالغا، لولا عمامته التي كان يعتاد لبسها، فقلنا له: يا قاضي احمدِ الله، ثم عمامتك، وإلا كان رأسك مشدوخا.

في ذلك الاستهداف اللعين تلقّت سيارتي ركام المبنى الشمالي من (مكتب رئاسة الجمهورية) ولم تدفع عنها لا عمامة ولا غيرها، كما قضى فيها عدد من موظفي المكتب شهداء، وجُرِح آخرون، نسأل الله للجميع الخير والأجر والنصر.

رحم الله القاضي، وخلف على أهله واليمن جميعا بأحسن الخلافة، ونصر الله اليمن على أعدائها التاريخيين، والذين تكتظ وثائق القاضي ومركزه بإدانتهم قديماً وحديثاً.