*مهندس الأمن الأول، وطالوت العصر، الهامة الشامخة.. الجامع بين العقلية الأمنية العميقة والمهارة العسكرية الفائقة والدهاء السياسي والثقافة الواسعة والشجاعة والنباهة.. الروح الوطنية الأصيلة التي حشدت التاريخ والحضارة، وجمعت بين صلابة الأرض وأصالتها، وجسدت قيم اليمني العظيم ومبادئه الدينية والأخلاقية والوطنية..*
✍️ *ابوحسن الجماعي*
في تاريخ الشعوب هامات شامخة، لا يمكن تجاوزها عند قراءة الأحداث والحقائق، فهي جزء حي من ذاكرتها الحية، ورمز عنفوانها وكبريائها، صنعت البطولة وقهرت المستحيلات.
إن ما يمنح هذه الهامات بريقها اللامع، أنها تأتي في لحظة حرجة وخطرة، كما هو الحال في العدوان على اليمن، الذي أنجب كوكبة من أبطال شكلوا بوجودهم مرحلة انتقال مفصلية من حال الوصاية والخضوع إلى حال الكرامة وتحقيق النصر، بما تمتلكه من وعي وقدرة على التصدي والمواجهة، وتوجه مبدئي وثابت نحو الحرية والاستقلال، هذه الهامات شأنها شأن كل أبطال تدون التاريخ وتصنع المجد على أكتافها.
تقول الحقائق التاريخية بأنه من الصعب في الحروب الكبرى أن يتم التوافق بين إدارة المواجهة المباشرة مع العدو بنفس العزيمة التي تؤمن المناطق التي تسيطر عليها.
تشير بعض الدراسات إلى أنه من النادر جداً أن تحافظ الدول التي تخوض معارك دولية على أمنها الداخلي، حيث إن التركيز على معركة المواجهة ينعكس سلباً على الوضع الأمني داخلياً، فتحدث ثغرات كثيرة في الأمن الداخلي، ورأينا ما حدث ويحدث من تفجيرات دموية في دمشق وبغداد، بل في أقوى الدول العظمى التي تملك أحدث الأجهزة الأمنية والعسكرية، والتي تمكنت العصابات من اختراق أجهزتها الأمنية، كما حدث في بروكسل ولندن وباريس..
أما في اليمن فقد كانت نتائج التوفيق بين معركة المواجهة ومعركة الأوضاع الأمنية مغايرة تماماً لما تقوله الوقائع التاريخية، حيث كان النجاح في المعركتين، ففي موازاة نجاح الجيش واللجان في معركة المواجهة، هناك نجاح للأجهزة الأمنية في تثبيت الأمن والإستقرار، فقد أثبتت الأجهزة الأمنية مدى فعاليتها ونجاحها في الحفاظ على الوضع الأمني مستقراً، وهو ما أثار ذهول اليمنيين والعالم، وجعلنا نبحث عن سر هذا النجاح الباهر، لنجد خلف هذا الصمود وخلف الإنجاز الإمني المذهل بطلاً عظيماً، لم تغره الأضواء والشهرة، ظل يعمل بصمت ونكران ذات من أجل تثبيت الأمن والإستقرار، حتى استشهد مع بداية العدوان، لكن بصماته ما تزال هي التي تسير أعمال الجهات الأمنية حتى اللحظة.
إنه الشهيد البطل طه حسن المداني، الرجل الذي عرفته الجبال والسهول والبحار، وعرفه الأعداء قبل الأصدقاء.
لقد جمع المداني بين العقلية الأمنية العميقة والمهارة العسكرية، وهو ما جعله متفرداً يقدم واحداً من أهم الأدوار في البلاد.
لقد كان بطل معركة الأمن والمواجهة، يعرف جيداً كيف يحبط مؤامرات الأعداء ويصطاد جحافلهم في ميدان المعركة..
*لنقف لحظة بتأمل لنأخذ بعض شذرات مسيرته العطرة قبل العدوان الكوني على اليمن، ونعرِّج على لمحة بسيطة عن هذا القائد العظيم وأبرز المهام التي أوكلت إليه:*
اعتقل الشهيد في 2003/8م، وأودع سجنَ الأمن السياسي في صنعاء ثم تم ترحيلُه إلى سجن الآمن السياسي بصعدةَ، حيث ظل معتقلاً لمدة ثلاث سنوات ولم يخرُجْ من السجن إلّا بعد الحرب الثالثة بعد توصل الوساطة إلى موافقة السلطة لإطْلَاق المكبّرين فاُطلق سراحه مع زملائه في نهاية عام 2006م.
تزوّج الشهيد بعد خروجه من السجن لتتفجَّرَ الأوضاعُ بشن السلطة الظالمة الحرب الرابعة في 26/1/2007م وكان للشهيد دورٌ بارزٌ في صمود المجاهدين في الطلح وآل مزروع حتى جُرح، ولم ينتظر حتى تلتئم جراحه بل عاد إلى الميدان مشاركاً في قيادةِ صمود المجاهدين في آل الصيفي، وحين تجلت حكمته في إدارة الحرب أوكل إليه السيد عبدالملك الحوثي مهمةَ تحرير ضحيان، فقدّم مواقفَ بطولية في إدارة حرب المُدُن، وبرزت عسكريتُهُ العبقرية الفذة في تلك الحرب ولم تنتهِ الحرب الرابعة حتى كان قد جُرح مرة أخرى جراحاً بليغة.
وما بين كُلّ حرب وأخرى كان الشَّـهِيْد يضطلعُ بمهام جسام يوكلها إليه السيد القائد لما عُرف به من حكمة وحنكة سياسية وثقافة واسعة، فكان سفير السيد في إدارة المِلَفَّات مع التيارات الأخرى مثل بعض العلماء والأحزاب السياسية والمشايخ، فكان يقدم النموذج في إدارة تلك الملفات بنجاح مبهر.
وحين نكثت السلطة ببنود الوساطة القطرية وشنت الحرب الخامسة في 8/5/2008م كانت مهمة الشهيد تتمثل في صَدّ هجوم الدبابات والمجنزرات عن مدينة ضحيان وقرى الصعيد، فشكّل الشهيد جبهةً من الثبات والصمود وصنَعَ عقبةً كأداء في منطقة مفتوحة كصحراء هي منطقة آل حميدان، وأنجز مع رفاقه المجاهدين ما عُرف لاحقاً بمقبرة الدبابات.
حين توقفت الحرب الخامسة في 17/7/2008م كان أمامه مهامٌ لإنجازها في رِكاب السيد القائد، من أبرزها إدارة الفعاليات التي انطلقت مثل المولد النبوي الأَوّل ذلك العام وَالاسهام في إدارة المناطق التي أصب
حت محررةً من بطش عساكر النظام.
وحين شنت السلطة الحربَ السادسة في 20 شعبان 1430هـ الموافق 10/8/2009م كانت مهمةُ الدفاع عن الصعيد بشكل عام هي مهمة الشهيد العظيم، فقد أدار معركة المقاش في مواجهة زحوفات مجنزرات الفرقة ومَا يُعرف بالبشمرقة على مدى ستة أشهر من الحرب السادسة انتهت بنصرٍ مؤزر..
*أبرزُ المهام التي أوكلت إليه:*
عقبَ انتهاء الحرب السادسة أوكل السَّـيِّدُ القائدُ إلى الشَّـهِيْد تأسيَس الدائرة الأمنية وإدارتها بشكل مستقل عن الجانب العسكري والجهادي، فشكّل الشَّـهِيْدُ ما عُرف حينها بقسم الأمن الداخلي.
استطاع الشهيد البطل أن يدير الجهاز الأمني بدهاء منقطع النظير، وتمكن من فرض حالة أمنية مستقرة لم تشهدها البلاد من قبل، حتى عرفت صعدة آنذاك بأنها (المحافظة التي لا يُسرق فيها أحد)، وتناقل الناس أخبار ترك السيارات مفتوحة بكل أمان، حيث كانت دوريات الأمن التي يديرها المداني تجوب شوارع وأزقة المحافظة ليل نهار، وتقدم الخدمات للمسافرين وتؤمنهم في صورة متفانية لم يشهد لها مثيل منذ زمن الأنبياء، فاستحق الشهيد لقب مهندس الأمن الأول عن جدارة.
بيد أن تلك الصورة الأمنية التي فاح عبير نجاحها حدود الشرق والغرب، لم تكن لتعجب ذوي العاهات الخبيثة من قوى الرجعية الجهوية المتغلغلة في أجهزة السلطة، حيث عمدت مليشيات تتبع عثمان مجلي إلى إثارة الفوضى بعمليات سلب ونهب لممتلكات المواطنين في مدينة صعدة لتشويه صورة الأمن والسلام القائم، إلا أن تلك الأعمال التخريبية واجهت مصيرها الأخير في 20 من مارس 2011/3م، عندما وجه السيد القائد، الشهيد المداني بمهمة تحرير المدينة، وبعبقرية عسكرية لا يضاهيه فيها أحد، تمكن الشهيد من تحريرها في غضون يومين فقط، وبدون أية خسائر تذكر..
كانت لدى الشهيد قدرةٌ فائقةٌ على تطبيق العلوم العسكرية كمدرسةٍ في الأداء العسكري في الحروب وبلورة منهجية أرقى مما درجت عليه مدارسُ العلوم العسكرية فتجاربُه الميدانيةُ وخططُه الإبداعية تستحقُّ أن تُدرَّسَ في الأكاديميات العسكرية، كما يقول متخصصون، وهي ليست إلا شاهدٌ على تجلّي الهداية الإلهية لمَن يسيرون على المنهجية القرآنية ويلتزمون توجيهاتِ قيادة ربّانية، وهذا ما كان يتميّزُ به الشهيد كُلّ التميز.
تقلد الشهيد العظيم منصبَ عضو اللجنة الأمنية العليا عقب الإعْــلَان الدستوري في 7 فبراير 2015م عندما تسلّمت اللجنة الثورية العليا قيادة البلاد.
برز دورُ الشهيد أبو حسن المداني (عليه السلام) بشكل أكبرَ عقب ثورة 21 سبتمبر 2014م الموافق ذي القعدة 1435هـ، حيث كانت مهمته تتمثل في المحافظة على وزارة الداخلية كمؤسسة سيادية من أهم مؤسسات الدولة..
يقول اللواء جلال الرويشان، وزير الداخلية آنذاك، معلقاً على الدور البارز الذي قدمه الشهيد بعد الثورة: لولا حنكة ودهاء المداني لكانت وزارة الداخلية في مهب الريح.
تميز الشهيد طـٰه المداني بدهاء الساسة العظام وشجاعة الفارس المقدام ونباهة رجل الأمن الذي لا تغمض عيناه، كل هذه الصفات جعلت من المداني رجل المهمات الصعبة وأحد أهم رجال الجيش والأمن في البلد في لحظة تاريخية مصيرية.
*(كان المداني روحاً وطنية أصيلة حشدت التاريخ والحضارة، وجمعت بين صلابة الأرض وأصالتها، وجسدت قيم اليمني العظيم ومبادئه الدينية والأخلاقية والوطنية.)*
حمل هموم الوطن على عاتقه، ولم يكن يحب الظهور على الشاشات، كان يجسد قيم الإنسان اليمني الأصيل ومبادئ القائد العظيم.
كان كالأنبياء علماً وحكمة، وكالجبال صلابة، وكالأرض ألفة، مبتسماً دائماً، يمشي بهدوء، وكالريح يعصف بالأعداء في ميدان المعركة.
إنه بطل من أبطال التاريخ، تحتاج الأرض لعقود من الزمن حتى تنجب بطلاً بملامحه، ويشهد العالم مدانياً آخر.
إنه لمن الصعب حقا أن تختصر حياة بطل عظيم رسم بدمائه حلم وطن وسخر حياته لإحياء آمال أمة كالمداني بطل من عيار ثقيل في زمن خطير للغاية.
وما إن شُنَّ العدوان السعودي الأمريكي على اليمن 26/3/2015م حتى كان الشهيد صاحبَ دور كبير في مواجهة العدوان، ولم يقُمْ بإدارة المعركة من مكانه، بل كما هي عادته وعادة المجاهدين الكبار تحَـرَّكَ إلى الجبهات، فأكرمه الله بالشهادة في الخطوط الأمامية في 15 شعبان 1436هـ الموافق 5/6/2015م، لقد فاز الشهيد بكرامة الله تعالى، ونال ما كان يتمنّى، وخسر الوطن أحد أهم أعمدته الوطنية، إلا أن العزاء فيه أنهُ ربّى رجالاً في دُنياه سيواصلون مسيرتَهُ في الوفاء والولاء لله وللقائد وللمنهج ويُكمِلون مشوارَهُ في الدفاع عن الوطن، ويرسمون حلم الوطن بدمائهم..
كما لا أخفيكم أن هذا الشهيد العظيم كان له الأثر الكبير والدافع الرئيس لإلتحاقي بالمسيرة القرآنية لِما وجدت فيه من الصفات الكريمة والخصال النبيلة (تواضع، وإحسان، وحنكه قيادية، وشكيمة عالية، و شجاعة منطقة النظير)..
لقد بحثت في مختلف القواميس والمعاجم العربية لعلِّ أجد جملة تعطي هذا الرجل العظيم ولو اليسير من مقامه، فلم أجد إلا ما قاله الإمام علي "عليه