ما هي دلالات انفجار العنصريَّة في أميركا؟

ما هي دلالات انفجار العنصريَّة في أميركا؟

ليست هي المرّة الأولى التي ينتفض فيها الأميركيون الأفارقة ضد منظومة العنصرية والاضطهاد في الولايات المتحدة، وربما لن تكون الأخيرة، لكن ما يميّز انتفاضة الاحتجاجات الصّاخبة التي اندلعت في مينيابوليس عن سابقاتها السنوية في العقد الأخير، أنها تصوّب على منظومة الاضطهاد والعنصريّة المتجذّرة في أميركا، وهي أبعد من عنصريّة الشرطة وما يسمى العدالة الجنائية والحقوق المدنية، لكي تمسّ النّظام السّياسي المستمرّ إرثه من تاريخ العبودية، في توافق الطّبقة السياسية والنخب البيضاء على تمجيد أميركا العميقة القائمة على قيَم التفوّق العرقيّ والهيمنة الإمبرياليّة.

 عنصرية بطَعم العبودية

المزاعم الرائجة لتمجيد عظمة الديموقراطية الأميركية، بدليل إلغاء الرقّ والعبودية في الدستور، تتغافل عن الكثير من المبالغة في أثر الدستور الأميركي الذي ينظّم تفوّق العرق الأنكلوساكسوني الأبيض على غيره من الأعراق الأخرى، على أساس أنه حقّ طبيعي فوق بني البشر، ولا سيما الشعوب الملوّنة من ذوي البشرة السمراء والهنود الحمر.

إبراهام لونكولن الذي عدّل دستور العبودية، يعترف بأنّ التعديل لا يتعارض مع تفوّق العرق الأبيض على غيره من الأعراق الأخرى، بل يشذّب النتوءات العارية على الورق، التي ينبغي تغطيتها بمسحة إنسانية حضارية. وفي هذا الإطار، منح الدستور الأميركي في مضمونه امتيازات حصرية لأميركا العميقة في التعليم والعمل وحيازة الأراضي والإجراءات الجنائية، كما كان سائداً طوال التاريخ الأميركي في المستوطنات البيضاء.

ما غطّاه تعديل لونكولن كشفته قوانين "جيم كرو"، التي اعتبرت "العبودية عملاً خيرياً"، ونظّمتها في احتجاز الهنود الحمر في "المحميات" وفي غيتوات مخصصة للأميركيين الأفارقة والإسبانيين والآسيويين، إلى جانب الفصل العنصري في جوانب الحياة الأميركية.

الانتفاضات المتلاحقة ضد العنصرية أسهمت في الستينيات في تأثير حركات التحرّر في أفريقيا والعالم، بولادة قيادة ضد العنصرية من أجل الحقوق المدنية، فبرز منها مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس وحركة الفهود السود، وهو الأمر الذي أدّى إلى تخفيف أثر الإرث التاريخي، من دون أن تغيّر العنصرية بنكهة عبودية.

 أوباما زلّة تمحوها أميركا العميقة

انتخاب باراك أوباما لفترتين انتخابيتين (2008 - 2016)، أخذها الكثيرون من المؤرخين بأنها دليل على "عصر ما بعد العبودية في أميركا"، لكن تحت قمة الهرم في البيت الأبيض ومراكز القرار في الاتحاد الفيدرالي، تضخّمت عنصرية أميركا العميقة في التحضير لشطب زلّة أميركا من أمجاد المستوطنات البيضاء.

إبّان حكم أوباما، توسّعت التيارات العنصرية، وتنظّمت في مجموعات الميليشيا المسلّحة، فوفق مركز "بوفرتي لو" الأميركي، برزت 689 مجموعة عنصرية متشدّدة، منها 273 ميليشيا مدرّبة ومسلّحة وثيقة الصلة بالطبقة السياسية وإدارات الشرطة والدولة ولوبيات الاقتصاد الأميركي، فتقرير وزارة الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات الفيدرالي في العام 2010، يقرع جرس الإنذار "بأن العنف الأبيض هو التهديد الإرهابي الرئيس في الولايات المتحدة".

العنف مقابل الإرهاب

الأفارقة الأميركيون المهمّشون في غيتاوات، يلجأ بعضهم إلى خرق القوانين في بعض الأعمال الجنائية، وهو جزء لا يتجزّأ من عنف التهميش الذي يطبع حياتهم في أميركا. وإلى جانب هذه الحياة اليومية في غيتاوات الأفارقة الأميركيين، تخضع الأقليات الأخرى لعنف واضطهاد لا يؤدي إلى ردود فعل عنيفة يتناقلها ذوو البشرة السمراء أباً عن جد من تاريخ العبودية الطويل.

لكنَّ أعداداً قليلة من المجموعات اليسارية الأنركية لا تتجاوز عدة مئات في أميركا، تؤمن بممارسة العنف ضد التنظيمات اليمينية الإرهابية والشرطة، لكنها لا تؤمن بإنشاء ميليشيا مسلّحة، ولا تؤمن بإنشاء تنظيم وقيادة، فمجموعة "أنتي فا" (ضد الفاشية) تقتصر على مجموعة نخبوية من الشباب، أسّسها إيطاليون ضد الفاشية بين الحربين، وحافظت على استمراريتها في بعض الولايات، بحسب المؤرخ الأميركي مارك براي، وهي تنسّق مع مجموعات أخرى متفرّقة، منها مجموعة "بالديز" في مينيابوليس.

التنظيمات اليمينية المسلّحة التي تدعو إلى التخلّص من الأعراق الأخرى بالسلاح، يبرز منها "القوميون البيض" الّذين يتزعّمهم جيف شويب، في دعوته إلى الصفاء العرقي ونظرته إلى "أن اختلاط الأعراق يدمّر العرق الأصلي". ويبرز أيضاً "النازيون الجدد" الذين يضمّون 99 فرعاً في أميركا، وتبرز مجموعات "اليمين البديل"، ومجموعات "كلكلوكس كلاين" النافذة في صلتها بالإدارة الأميركية والطبقة السياسية، وفي انتشارها على مدى 130 فرعاً، فهذه التنظيمات التي تصفها منظمة "ساذرن بوفرتي لو سنتر" الأميركية بأنها إرهابية، هي التي تمثّل أميركا العميقة، وقد محت زلّة أوباما وتتحضّر لحماية ترامب.

 طبيب يداوي الناس وهو عليل

 لعلّ التسويق المفتعل لـ"واحة الحرية" في مزاعم حماية حقوق الإنسان والديموقراطية الأميركية، هو السبيل الذي اكتشفته أميركا البيضاء لتغطية تاريخ العبودية واستمرار موروثها في العنصرية البرّية. وفي هذا السبيل، تخوض حرباً إيديولوجية ونفسية شعواء، اعتماداً على مهارة التسويق والترويج بتقنيات عالية، لكن كما كشفت كورونا آفات النموذج الأميركي في هدر الحقوق لمصلحة حرية الرأسمال الكبير في قطاعات الخدمات الاجتماعية، قد تكشف انتفاضة الاحتجاجات ضد العنصرية المتأصّلة في النموذج الأميركي الغطاء عن منظومة القيَم الأميركية التي باتت سلعة رائجة في السّوق الدولية.

إنّ انتشارها الواسع في سوق التلقين يعتمد على فكرة ساذجة لا يحدّق بها معظم المحابين للحريات الأميركية، ومفادها: "إذا كنت تذبح عصفوراً، لا ينظر الدهماء إلى سكين الذبح في يدك، إذا كنت تذرف الدموع كي تتراءى لهم رقّة وشفافية".