كيف ستقرأ الأجيال الواعية من بني الإنسان هذه اللحظة الفارقة؟ وكيف ستحلل ذلك المشهد التراجيدي المتوحّش؟ كشفت لنا جائحة كورونا (covid-19) التي اجتاحت العالم، وتحديداً في "كوكب الأغنياء" من الرأسماليين المتخمين بالمال والثروة، عن مجموعة من السلوكيات والتصرفات والممارسات غير السوية الصادرة عنهم، سواء كانوا من طبقة السياسيين أو من أصحاب النفوذ المالي الهائل أو من صناع القرار، وهم شريحة تعد "أقلية" متسلطة مُتحكمة بمصائر الإنسانية جمعاء، حازت نفوذاً وتأثيراً هائلين في سير مجرى تاريخ البشرية برمّتها، وخصوصاً من يديرون مقود الأمم كلها بعد الحرب العالمية الثانية وحتى في ما قبلها، وهي تصرفات وسلوكيات وممارسات ذلك الإنسان النرجسي الغارق في الأنانية والذاتية من رأسه وحتى أخمص قدميه.
هؤلاء هم الذين وجّهوا بوصلة مسار حركة المجتمعات البشرية برمّتها مُنذ العصر الحجري البدائي إلى مرحلة الإفراط في استهلاك السلع والخدمات، أي مرحلة "الرأسمالية الاحتكارية"، كما رسمها المفكر الألماني كارل ماركس ورفيق دربه المثقّف فريدريك أنجلز.
شهدت المراحل المتعاقبة من تاريخ البشرية العديد من ظواهر ذلك السلوك الأناني والنفعية الانتهازية والبراغماتية الميكيافيلية القذرة، وهو سلوك "الاستحواذ" غير المشروع.
ربما يعود ذلك في جذوره إلى مرحلة تكوّن المجتمعات البشرية برمّتها، منذ أن ودّع الإنسان الحياة المشاعية البسيطة في بدايات تعرفه إلى تكوين جذر الملكية الخاصة، لكن ما شاهدناه وشاهده العالم خلال شهري شباط/فبراير وآذار/مارس 2020، كان شيئاً مختلفاً تماماً، ربما تجاوز كلّ الحقب والقرون السابقة لعصرنا. إنها ظواهر غريبة ومخيفة للبشرية جمعاء.
كيف ستقرأ الأجيال الواعية من بني الإنسان هذه اللحظة الفارقة؟! وكيف ستحلل ذلك المشهد التراجيدي المتوحّش؟! فالإنسان تظاهر لقرون عديدة بالتسامح، والتسامي على الجراح، والسخاء الإنساني الأخوي، وحقوق الإنسان، والتضامن الإنساني، عبر إلغاء الحدود السياسيَّة المُصطنعة. كيف ستُدرس قضية أن الإنسان أخو الإنسان في قادم الأيام؟!
هناك إشكالية معقّدة في ثقافة وتربية الإنسان الذي نشأ على حب الذات والتسلط الفردي، والذي أجازه في ما بعد غُلاة الفكر الاقتصادي الرأسمالي، أمثال آدم سميث وريكاردو والقس مالتوس. هؤلاء شرّعوا وشرعنوا الفردية المطلقة لقوة الإنسان ودهائه.
كل ذلك يقودنا إلى السؤال المركزي: هل أنانية الفرد هي محور وأساس التطور في هذا العصر والعصور السابقة لنا؟! هل الأنانية وعبادة الذات بنرجسية مُفرطة مُطلقة خلقت وحدها كل تلك المنافسة الهائلة بين الأفراد والجماعات، وصنعت تلك النتيجة المبهرة في الحضارات والعلوم والتقنيات على مر التاريخ؟!
وبالتالي، يحق لنا أن نطرح في لحظة فارقة من حياة البشرية السؤال المحوري: لماذا أنزل الله سبحانه وتعالى الديانات السماوية الثلاث إلى الأرض والإنسان، علاوة على ما جاء من أفكار ونظريات من سبقونا من الفلاسفة والحكماء، الذين زرعوا حكمة الفضيلة في الإنسان ضمن مسيرة تطور البشرية منذ بدء الخليقة، حين تم رصد تاريخه وسيرته وتدوينهما بشكل مكتوب وموثق؟
جميعنا تابع، ولا يزال، عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ والشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية الأخبار المُرعبة لفيروس كوفيد 19 الذي غزا العالم أجمع. ذلك المخلوق الذي لم يُرَ بالعين المجردة، غزا الدول الغنية والفقيرة بشكل منصف، وأظهر ارتباكاً ملحوظاً لدى الدول الكبيرة صناعياً واقتصادياً وثقافياً بساستها ونظمها الصحية المبالغ فيها، لكنها ظهرت للرأي العام بأنها متهالكة مدمرة، وأن مدناً ومقاطعات كبيرة صاخبة، مثل نيويورك وتوسكانا والبندقية ومدريد، لم تجد حتى التوابيت (الأكفان) لموتاها، وأن الولايات المتحدة الأميركية تختطف الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي المُرسلة إلى باريس وبرلين وتحولها إلى واشنطن، وأن دولة حديثة النشأة، مثل التشيك، تختطف المواد المطهرة والكمامات المُرسلة إلى إيطاليا، وأن إيطاليا بدورها تختطف سفينة متجهة إلى تونس الخضراء محملة بمواد وأجهزة طبية، وأن الموساد الصهيوني الإسرائيلي كعادته في القرصنة، كمجموعة عصابات قذرة، أرسل عصاباته لتأمين الأجهزة المطلوبة لمواطنيه المرضى بفيروس كورونا من عدد من البلدان.
إنها أخبار مزعجة ولا تُصدق. هكذا هي الأخبار المتداولة على مدار الساعة في القنوات الفضائية العربية والأجنبية. ولهذا، يحتار المرء في ذلك التناقض الصارخ بين ما كان يروّج له من أخلاقيات ديموقراطية الإنسان (العصري) في الدول الغربية وواقع الحال من عمليات قرصنة ونهب (عيني عينك)، ولم يعد يهم تلك الحكومات والأشخاص والقوميات سمعتها وما سيقال عنها، وكأن حالهم يقول: أدبّر نفسي الآن، وغداً سينسى الرأي العام العالمي سقوط تلك الأخلاقيات الليبرالية البراقة الكاذبة.
وأمام عاصفة جائحة كورونا، يتم تداول رؤيتين تتصارعان في الولايات المتحدة الأميركية، وتدور مناقشات حرة وشفافة حولهما. الرؤية الأولى تقول إن المصلحة العليا للأميركيين هي اعتماد مبدأ التوقف عن العزل الاجتماعي، والانتقال إلى ساحات العمل، لكسر ذلك الجمود في الجانب الاقتصادي، والبدء بعد شهر نيسان/أبريل الحالي بخروج الجميع إلى سوق العمل والدراسة والسفر والتنقل وغيرها. والهدف عدم الاستسلام لفيروس كورونا، كي لا ينهار الاقتصاد كلياً ويتم الدخول في مرحلة الركود العظيم.
ويقول منظرو هذا الاتجاه إن الاقتصاد الرأسمالي يستطيع أن يغطي نفقات شهر أو شهرين فحسب. وفي ما عداها سيتحول الاقتصاد الكلي لأي بلد رأسمالي إلى ركام، وستتحول المكاسب الاقتصادية المُحققة لعقود إلى خسائر، وقد تنهار الاقتصادات والدول على حدٍ سواء، وستنهار بعد ذلك الدولة بجميع مؤسساتها.
هذا الرأي يتبناه الرئيس دونالد ترامب وجزءٌ كبير من منظري هذا الاتجاه الراديكالي من الحزب الجمهوري، كي يكسبوا رهان الانتخابات الرئاسية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر القادم.
والرأي الآخر يتبنّى أطروحة استمرار العزل الاجتماعي الاختياري والإجباري، وضخّ المزيد من الإمكانيات المالية والمساعدات للأسر المحتاجة التي فقدت وظائفها بسبب الجائحة، ويقول إن صحة المواطن أغلى من الاقتصاد.
يُضاف إلى عدم أخلاقية هؤلاء من غُلاة التشدد الأعمى ضد الإنسانية، وهم طابور رأسمالي جشع وطويل يمتد من شرق الكرة الأرضية، في ظل هذه الظروف الصحية الاستثنائية، أنهم ما زالوا يمارسون سياسة الحصار والعقوبات القذرة ضد خصومهم في العالم، ويواصلون اتخاذ قرارات اقتصادية ومالية مؤلمة بحق الشعوب المخالفة لهم بالرأي والموقف.
والأكثر دلالة على ذلك قرارات أميركا بحصار الشعب الإيراني والسوري، وقبلهما الشعب العراقي والفلسطيني واليمني والشعب الكوبي والفنزويلي، ولم تجد الإدارة الأميركية أي غضاضة وهي تعاقب الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية.
كل ذلك أساسه منع الشعوب الحرة من أن تقرر ذات يوم مصيرها بذاتها، وأنّ على الجميع في كوكبنا الأرضي هذا اتّباع إرادة الأميركيين والصهيونية العالمية. ومن خرج من هذه الحضيرة، سيكون مصيره الحصار والعقوبات والانقلابات وغيرها من أساليب التدخل السافر، إن كان ناعماً أو خشناً.
انتُخب الرئيس دونالد ترامب على أساس أن قاعدته عنصرية أوروبية (بيضاء)، وكان يطلق عليهم في اللغة الانتخابية أنهم ناخبون "شعبويون". هذا المصطلح لا يعدو كونه مُفردة لغوية إعلامية، لكن محتواها ومحتوى البرامج الانتخابية قائمة على أساس العداء للأجانب والمهاجرين والأقليات المسلمة واليهودية والعرق الأفريقي الأسود والشعوب القادمة من أميركا اللاتينية، أي أنه عداء عنصري مقيت، والسيد ترامب لا يتورع في قول أي مفردة تعزز لدى الناخب الأميركي الأبيض بالشعور بأنه فوق الجميع، وأن الإنسان الأبيض متفوق ذهنياً على بقية الأعراق، وردّد مقولة الفيروس الصيني، وأن مصالح أميركا أولاً قبل جميع شعوب العالم وهكذا.
التربية العنصرية دمرت أوروبا والعالم، وكانت نتيجتها الحرب العالمية الثانية، التي راح بسببها أكثر من 60 مليون إنسان. ولهذا، إذا لم يتعلّم العالم الغربي وثقافته المعقدة من الدروس، فقد يعيد مأساة الحروب العالمية. ولذلك، فإننا إن شاهدنا أي أحد يهم بإشعال فتيل الحرب من دون أن ننبه إليه أو نوقفه، فإننا سنكون شركاء في الجريمة التي ستحيق بالإنسانية.
الذهنية العنصرية المترسبة في بعض عقول الطبقات والفئات الأوروبية لا زالت موجودة، فقبل أسبوع، أعلن طبيبان فرنسيان أنهما اخترعا لقاحاً ضد فيروس كورونا، لكنهما استحسنا البدء بتجربته على المواطنين في أفريقيا. هكذا هي رواسب التربية والعقلية الكولونيالية الفرنسية المتخلفة، وهي العنصرية الحقيقية المقيتة التي تطل برأسها في الانعطافات الحادة من تطور المجتمع الإنساني.
هناك اتجاهات سياسية وعرقية لا زالت ثابتة في الذهنية الأوروبية الموروثة من تجارب قرونٍ خلت. على سبيل المثال، إن المناداة بتطبيق نظرية "القطيع الواحد في المجتمع"، والتي روّج لها السيد بوريس جونسن، رئيس وزراء بريطانيا، وأعلن عنها بعض السياسيين اليمينيين في ألمانيا الاتحادية، هدفها فكرة أو نظرية "البقاء للأقوى" التي نظَّر لها العالم الإنجليزي تشارلز داروين والقس الإنجليزي توماس مالتوس والعلماء النازيون الألمان، أي أن الجائحة ستأتي على الشريحة الضعيفة في المجتمع الأوروبي من المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن، وهي أفكار نازية بامتياز تقول إن الجنس الألماني الآري هو العرق النقي من جميع العاهات، وليس فيه سوى الأقوياء الأنقياء المتميزين عن بني البشر، فهل ما زلنا في مطلع القرن الواحد والعشرين نروج لمثل تلك الأفكار المريضة وغير الإنسانية؟!
إن جميع الديانات السماوية ترفض كل تلك الأطروحات العنصرية غير الأخلاقية. يقول الله في محكم كتابه الكريم مخاطباً الرسول محمداً (صلى الله عليه وسلم): {وإنك لعلى خلقٍ عظيم}، ويقول الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) عن رسالته: {إنّما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق}، أي أن الأخلاق هي النقيض لمرض العنصرية المقيت، وأن المنهج السوي في جميع الأديان هو الأخلاق.
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في أحد أعظم أبياته حول قيمة الأخلاق في نهوض الأمم ما يلي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إنَّ الأخلاق أحد أهم معاني استقامة الأمم، وهي دافع أساس لتطورها. هكذا هي المعاني السامية التي حملتها لنا الأديان السماوية والوضعية وخلاصات الفكر الفلسفي للحكماء والمفكرين ما قبل الديانات، أي أن العنصرية والأنانية والانتهازية النرجسية هي خصال ممقوتة حاربتها جميع الديانات.
ندرك أنّ الطوباوية الحالمة لمجتمعٍ فاضل خارج رغبات الإنسان وطموحاته لم يحدث ولن يحدث في كوكبنا الأرضي، هي مجرد أحلام وأوهام رغب العديد من الفلاسفة في صنعها كتجربة على الأرض، لكنها تظل أحلاماً فحسب، لكننا نشير إلى تعاليم دينية حقة مطلقة المعنى، أرسلها الله جل عُلاه، وبعث بها رُسلاً وأنبياء ومصلحين، لأنه إدراك إلهي لكبح جماح جشع الإنسان المُفرط في الشهوات والرغبات والاستحواذ، وهي خواص بشرية أنانية دمّرت الإنسان والبشرية في أكثر من واقعة، ومنها، على سبيل المثال، تدمير المناخ في كرتنا الأرضيّة، التي لولا وجود هذا الفيروس ربما بالغ ذلك الإنسان في إنهاكه واستنزافه وتدمير مقوّمات بقائه.
وتشير التقارير والمعلومات إلى أن توقف المطارات والموانئ وسكك الحديد العملاقة وحركة السيارات، وتوقف كبريات المصانع عن العمل، قد أسهم إلى حدٍ كبير في تقليص انبعاثات ثاني أُكسيد الكربون بمعدلات غير مسبوقة، وكانت لصالح تعافي البيئة من دون شكّ، وأنّ المواطن الصّيني في مدينة ووهان شاهد، ولأول مرةٍ، سماء مدينته صافية زرقاء، وشاهد سكّان مدينة البندقية، لأوّل مرة، حركة الأسماك والدلافين وهي تتجول سابحة في أزقة وأحياء المدينة المائية الصافية.
ويقول بعض المزارعين في ضواحي مدينة باندونج في إندونيسيا إنهم شاهدوا، ولأول مرة، نمو زهور نادرة جديدة، مع العلم بأن هذا النوع من الزهور انقرض ولم يعد ينمو منذ عقودٍ بعيدة.
ولاحظ السكان القاطنون على ضفاف نهري النيل والأمازون العظيمين أن حركة رحلة سمك السالمون الشهيرة تضاعفت مرات عن المألوف، وبشّرنا علماء البيئة بأن ثقب الأوزون بدأ يستعيد عافيته تدريجياً. وهناك العديد من الشواهد التي تشير إلى أن كوكبنا بدأ يتطهر رويداً رويداً من رجس جشع الإنسان المُفرط في الأنانية.
إنَّ هذا المخلوق الضّعيف الّذي لا يُشاهد بالعين المجردة أوقف جشع الإنسان وأنانيته، وهو الذي لم يتوقف عن الإنتاج والحركة لقرونٍ خلت. وبهذا التوقف الإجباري، تحسّنت البيئة بشكلٍ قياسي يدفعنا إلى التأمل والتفكر في خلق الله، ويجبر البشرية جمعاء، بنظمها الاقتصادية والاجتماعية، إلى إعادة التفكير ألف مرةٍ في التعامل الصحيح مع الأرض ومحيطها وبيئتها، والله أعلم مِنّا جميعاً.
وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم
رئيس مجلس الوزراء