بعد انتهاء السيد القائد عبد الملك بدر الحوثي من خطابه المهم بمناسبة العيد التاسع لثورة الحادي والعشرين من سبتمبر المجيدة سألني أحد الأصدقاء عن معنى التغيير الجذري الذي قدمه السيد القائد في خطابه كضرورة في المرحلة الحاضرة للحفاظ على الاستقرار ومواصلة الصمود في وجه العدوان، وأضاف: هل يعني هذا ان نتوقع تغييرًا على مستوى رئيس الوزراء مثلا أو رئيس الجمهورية، أو على مستوى شخصيات متعددة من الوزراء؟ ومن تتوقع سيطاله التغيير؟
فأجبته بأن البنية العميقة للدولة لا تتمثل في الصف الأول من القيادات – على أهميتها - ولكن في اللوائح والأنظمة التي تحكم سير العمل، وبدأت أفكر معه بصوت مسموع قائلا: مثلا بالإمكان إطلاق يد الرقابة والمحاسبة بشكل واسع جدا، ليتمكن المجتمع من قطف ثمار عمل هذا الجهاز في الواقع الملموس، من خلال استبعاد كافة القوانين التي تمنح الحصانة لبعض الفئات من المسؤولين والقيادات، أو القوانين التي تمنح الفاسدين فسحة في الإجراءات ليرتبوا أوضاعهم أو ليهربوا إلى حيث لا تطالهم يد القانون، ومن ذلك تأسيس جسم قضائي كنيابة إدارية لصيقة بالجهاز، للتحقيق في قضايا الفساد التي يحيلها إليها، يكون لها صفة الاستعجال في البت في القضايا ومن ثم رفعها إلى محاكم مختصة بهذا الجانب تحت صفة الاستعجال، ويمكن بالإضافة إلى ذلك تغليظ العقوبات على مرتكبي الفساد المالي والإداري بما يمثل ردعا يدفع الفاسد إلى كف اليد، وكل هذا يتطلب تغييرا جذريا في البنية التشريعية للدولة.
ثم ضربت مثلا آخر بالتربية والتعليم، لا كوزارة ولكن كتوجه ينبغي أن يكون فيه تغيير جذري، فإن بدأنا بوزارة التربية والتعليم يمكن أن نقول على سبيل المثال: علينا أن نعيد الهيكلة الإدارية للجسد الإداري المترهل بإصلاحه، فمثلا: بعض القطاعات في الوزارة يمكن أن تتحول إلى إدارات عامة، فقطاع محو الأمية وقطاع تعليم الفتاة يمكن أن يندرجا كإدارات عامة ضمن قطاع التعليم، بل أكثر من ذلك يمكن استحداث قطاع للتعليم الفني والمهني بالتوازي مع إلغاء وزارة التعليم الفني والتدريب المهني التي أنشأتها حكومة با جمّال الفاسدة في العام 2001، حتى نضمن أن تكون استراتيجية التعليم واحدة بقيادة واحدة، تصب من أجلها كل الموارد، وبهذا يمكن تحويل العشرات من المدارس في كل مكان لتكون في تشكيلتها الإدارية والتعليمية خليطًا بنّاءً من التعليم العام والتعليم الفني والمهني المتخصص، فبدلا من أن أفتح في المدرسة الثانوية أربع شعب كلها "ثانوية عامة" سأخصص شعبة واحدة فقط للتعليم الثانوي العام، وثلاث شعب للتعليم المهني والفني بمختلف تخصصاته (كهرباء، ميكانيك، صحة، ...الخ) كمسارات تعليمية ثانوية موازية لمسار الثانوية العامة، وسوف أنشئ الورش اللازمة لذلك، كما سأنشئ المعامل التعليمية، وهذا ما يلبي احتياجات السوق في مجال اليد العاملة المتخصصة التي تستطيع أن تحدث الفارق في التنمية.
لقد اتسمت الفترة الماضية بتضييق الخناق على الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بالتعليم الفني والمهني لأن الأنظمة التعليمية تحرم حملة شهادات التعليم الفني والمهني والصحي من مواصلة التعليم العالي، ولمعالجة ذلك يمكن أن تفتح مسارات التعليم العالي بشكل منظّم لحملة هذه الشهادات الفنية والمهنية، مع مراعاة بعض الضوابط، فيمكن أن تضاف لخريجي التعليم المهني سنة تمهيدية يأخذون فيها بعض المقررات اللازمة للتخصص الذي سيلتحقون به في الهندسة أو الطب على سبيل المثال، أو تحديد نسب معينة للمتفوقين في هذه الشهادات أعلى من نسب الثانوية العامة بطبيعة الحال حتى يتمكنوا من الالتحاق ببعض الكليات.
حتى التعليم الجامعي لا بد من تغييرات جذرية لبناء المستقبل بصورة صحيحة، فعلى سبيل المثال ليس من حق أي جامعة خاصة أن تمارس "العهر التعليمي" باسم النظام والقانون، فهي حين تخفض معايير قبول طلاب في كليات تخصصية حساسة ككلية الطب تسيء إلى العلم والتعليم، فالحاصل اليوم أنّ من لم يستطع أن يلتحق بالكلية الحكومية يمكن أن يلتحق بأي جامعة خاصة - تخصص طب بشري – حتى لو كان معدله في الثانوية العامة متدنيًا، وهذا الإسفاف عيّنة بسيطة من واقع غير مقبول.
كذلك في التعليم الجامعي يمكن أن تتحول الأنظمة التعليمية الحالية إلى نظام الساعات التي تمكِّن الطالب من اختيار المواد والمقررات التي يمكنه أن يدرسها في الفصل الدراسي، ضمن الضوابط العامة التي تحددها الجامعة، سواء أكان ذلك في مجال مراعاة التراتبية لبعض المواد أو مراعاة الحدّ الأدنى أو الأعلى للمواد التي يمكن أن يجمعها الطالب الجامعي في الفصل الدراسي الواحد.
نعم، إن استمرار العمل بالمسار الإداري الحالي يجعلنا تحت وطأة الحكم العفاشي وإن كان ربُّه قد قضى نحبه صريعا في مسعى خيانة فاشل، ومهما تكون هناك من معوقات فلا بد من خوضها لإنجاز تغيير جذري، قد يكون بعضها مرتبطا بجوانب لوائحية وقانونية وتشريعية، وبعضها متعلِّقا بالرؤى الإدارية أو الكوادر البشرية، ولكن متى ما وجدت الرؤية الواضحة والتوجُّه الصادق للتغيير الجذري في كل مجالات الدولة فإن ذلك سيكون ممكنا، طالما توفر مع هذه الإرادة رجال صادقون مخلصون، يكونون خير عون وخير سند لهذه القيادة الرشيدة، التي يجب أن نتعامل معها كالفرصة التاريخية، وفواتها سيعقبه غصة أبدية.