السُّلطة الرابعة وسياسة التجهيل

السُّلطة الرابعة وسياسة التجهيل

تتبجّح بعض المؤسسات الإعلامية وعدد من صحفييها بـ "الرسالية" و"الإخلاص"، مُطبِّلين بهذه العبارات الرنانة التي باتت بمثابة أدوات تجميل لمن أراد أن يحاضر بالتمدن،

 

أو لباس تقوى لمن أراد ارتقاء المنبر ليخطب بالعفة، كل ذلك لتمرير المشاريع التي يعمَلون لها ويتقاضون رواتبهم لأجلها، دون أن يهتمّوا – على الأقل – باحترام المشاهدين والمتابعين... وقد تنطلي مغالطاتهم المُتبرِّجة على السُّذَّج، ولكن فات هؤلاء "الرساليون" أنّنا بتنا في مجتمع مُدرِك يقرأ ما وراء السطور ويعي ما يسمع.

فإذا كانت الحكومات المتعاقبة في لبنان قد أمعنت بالهدر والفساد المالي وسوء الإدارة على مدى عقود مترامية حتى أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية، فإنّ السلطة الرابعة متمثلة ببعض مؤسساتها ومحطاتها الداخلية والخليجية لا يمكن استثناؤها من الفساد، بل هي ضالعة في الإفساد من خلال التعمية والتضليل اللَّذين يستهدفان مصدر السلطات أعني "الشعوب". وبعد الفضيحة التي مُني بها هذا اللون من الإعلام بُعَيد فاجعة الرابع من آب في بيروت بات من الوضوح بمكان لدى الكثير أنّ إعلام البترودولار هو مصانع حيّة  تُمعِن في الإنتاج؛ أي إنتاج التّجهيل والتضليل بحرفيّة عالية، بل و"رسالية" كاملة لصالح الأجندات الصهيوأمريكية، من خلال تشويه صورة المقاومة في العالم العربي والإسلامي والطعن بنقاط قوتها التي تؤلم إسرائيل على نحو الخصوص.  

هذه المقالة تناولت – بتحليل مختصر – المراحل والتقنيات التي تمرّ بها عملية إنتاج التّضليل في المحطات اللبنانية والخليجية التي تقتات على فُتات البترودولار:

المرحلة الأولى: صناعة الخبر

في هذه المرحلة يشكل الخبر المادة الخام التي ستخضع في المراحل الآتية لـ "التحليل" و"استنتاج الحكم". هنا تتمّ صناعة الخبر إمّا بتشويه الواقع من خلال مسخ الخبر، وإما باختلاق الخبر من العدم. وذلك عن طريق تقنيات ثلاث نوضّحها من خلال أمثلة حقيقية وقعت بُعَيد انفجار مرفأ بيروت:

  1. التقنية الأولى: التحريف

مثاله ما نقلته إحدى المحطات عن مصدر أمني لم نعرفه: "عناصر من حزب الله دخلوا عبر الهيئة الصحية إلى المرفأ ولديهم شيء ما يفعلونه". مع أنّ المتواتر هو "لبّت طواقم الهيئة الصِّحية الإسلامية الصَّيحةَ الإنسانية من داخل المرفأ والمحيط ووضعت إمكاناتها بخدمة المصابين". وهذه التقنية كما نلاحظ تقوم على أساس مسخ الواقع وتحويره، لا الحكاية عنه.

  1. التقنية الثانية: الاجتزاء والتّدليس

مثاله أن تنقل تلك المحطات تصريح الرئيس الأمريكي بأنّه "سوف" يقدم المساعدة، وتولي لزيارة الرئيس الفرنسي عناية خاصة مع أنّ الواقع هو أنّ العراق والجزائر وإيران وسوريا وقطر وبعض الدول العربيّة الأخرى قد قدّمت المساعدة فعلا، وحركات المقاومة والشعوب – حتى التي ترزح تحت نير الظلم كالشعبين اليمني والفلسطينيّ– قدّمت جميع أشكال التّضامن، والرئيس الفرنسي زار بيروت ووعد بالمساعدة والرئيس الأمريكي "وعد" بذلك. ونلاحظ أنّ هذه التقنية تقوم على أساس تعويم جزء من الواقع وإخفاء الجزء الآخر، لإيهام المشاهد بأنّ الجزء الآخر لم يقع أصلا.

  1. التقنية الثالثة: الاختلاق

مثاله أن تقوم المحطة ببث خبر عاجل ابتدعته من العدم: "عناصر من حزب الله ينتشرون في مرفأ بيروت بعد الإنفجار"، مع أنّ هذا لم يوثّق بالكاميرة ولم يقم عليه أي شاهد أو دليل حسي ولا حدسي، والحال أنّ التجربة تثبت عدم مصداقية هذه القنوات فكيف نحسن الظن بها؟! ونلاحظ أنّ هذه التقنية الثالثة تقوم على الكذب الصريح والواضح.

هي تقنيات ثلاث تُجِيدها تلك المحطات بحرفيّة لتصطنع الخبر تمهيدا لتحليله.

المرحلة الثانية: تحليل الخبر

بعد أن يزود المراسلون أو المعنيون استديو المحطّة بتلك الأخبار الملوَّثة والمصطنعة، تبدأ مرحلة التّحليل. وهذا التحليل يستمد فساده من نقطتين:

الأولى: أنّه يستند – عادة، وفي خصوص المسائل ذات الصلة بالمقاومة – إلى معطيات غير مطابقة للواقع؛ لأنّها محرَّفة أو مجتزأة أو مُخترَعة كما تقدّم.

الثانية: أنّ المحللين الذين يطلب إليهم حشد المؤشرات وربط المعطيات واستخراج النتائج هم في الحقيقة يعمَلون ضمن رؤية سياسية متوافقة تماما مع رؤية المحطة، وبالتالي سيكون التحليل – تلقائيا – في خدمة الأجندة الصهيوأمريكية؛ أي تحليل يُشيطن المقاومة وينسجم مع سياسة التطبيع.

ومثال تحليلهم بعد فاجعة مرفأ بيروت: "سلاح لحزب الله في العنبر رقم 12 تم استهدافه من قبل إسرائيل قبل الرد الذي سيقوم به حزب الله" أو "التفجير هو عمل أمني أقدم عليه حزب الله قُبَيل إعلان قرار المحكمة الدولية وذلك لذر الرماد في العيون" وعلى أيٍّ من الفرضيتين: "هذا يعني أن الحزب وسلاحه هو الذي سبب هذه الفاجعة للبنانيين".

هكذا يَستمدُّ التحليلُ فسادَه من فساد المعطيات وإيديولوجية المُحلِّلين.

المرحلة الثالثة: تشخيص الجاني ومحاكمته

في المرحلة الأخيرة يختزل إعلاميو تلك المحطات دور المحاكم والقضاة، وتتحول السلطة الرابعة إلى سلطة قضائية أو إلى مركز أبحاث كيميائية وفيزيائيّة من خلال استضافة خبراء يحملون نفس الهوية السياسية، ويتنطّحون للبحث الجنائي في الأسباب وتحديد المجرم ونوع العقوبة.

ومثاله بناء على الأخبار الناتجة في المرحلة الأولى، والتحليل الناجم عن المرحلة الثانية: "حزب الله هو الجاني ولابدّ من مقاضاته شعبيًّا ودوليا في محكمة لاهاي من خلال إصدار حكم يقضي بنزع سلاحه ولو بالقوة".

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا اللون من المحطات يتظاهر بالموضوعية فيقول "إن ما ذكرناه هو على نحو الفرضية"، وفي الوقت نفسه يُفرطون في تكرار مجموعة من الفرضيات تشترك جميعا بكَيل التهم لخط المقاومة في العالم؛ أي أنّ جميع هذه الفرضيات تصبّ في خدمة المشروع الصهيوأمريكي؛ لأنّه وببساطة المستفيد الأوحد من هذا الضّخّ الإعلامي المُشَيطِن للمقاومة.

أخيرا، وبعد هذا المسلسل المعقّد الذي يمرّ به المُنتَج (الخبر) يأتي دور المُشاهد فيجد نفسه أمام سَيل من التكرار للمعطيات والتحليلات والأحكام التي تصبّ – بشكل مباشر أو غير مباشر – باتّجاه الطعن بالجهة الفلانية، والتّمجيد بالجهة الكذائيّة، فيتخذ المشاهد موقفا يتلاءم مع رؤية تلك المحطة أو ذلك المحلل دون أن يشعر.

بتلك الطّريقة تُنتِج بعض المؤسّسات الإعلامية (المحلية والخليجية) التضليلَ في الشارع العربي.. وبعبارة أدقّ: هكذا يسعى أصحاب السلطات الأخرى ومُلّاك رؤوس الأموال إلى استحداث محطات تلفزيونية أو توظيف بعض الموجود منها لتكون أداة تجهيل للقواعد، وتضليل للرأي العام، ولإعادة إنتاج الأشخاص أنفسهم في السّلطة، كي يحافظ السياسيّون المعهودون على نفوذهم وثرواتهم و – الأهم – أجنداتهم الصهيوأمريكية المولَجين تنفيذها.