لقد خلق الإنسان في هذه الحياة لأسمى غاية وهي عبادة الله سبحانه وتعالى بالشكل الذي يشهد لله بكماله وقدرته ووحدانيته، وكل ما تتضمنه أسماؤه الحسنى من معانٍ ودلالات، وبسبب ظلم الإنسان لنفسه وجهله بعظمة خالقه فقد خالف توجيهات الله سبحانه وتعالى منذ اللحظة الأولى وانقاد لرغباته وشهواته وانخدع بالأماني والوعود الكاذبة للمضلين بدءً من إبليس اللعين ومرورا بأعوانه عبر العصور وبهذا جلب على نفسه الشقاء فكلما نجحت قوى الطاغوت والاستكبار، في إبعاد الإنسان عن هدى الله وعن مسؤولياته في الحياة، كلما جعلوا منه مستهتراً في هذه الحياة وعبثياً وضائعاً وتائها ومنفلتاً، لا تضبطه ضوابط، ولا تحده قيم وحدود في تصرفاته وأعماله، فتعظم وتكثر جنايته على نفسه وعلى البشر من حوله، وكلما تمكن أكثر مع هذه الحالة من الانفلات كلما كانت سلبياته في هذه الحياة أكثر ودوره السلبي أفظع وأخطر.
ومن أوضح الشواهد على ذلك تلك المراحل التي ابتعد فيها الإنسان عن هدى الله نتيجة انحرافه وتحريفه لدين الله والانغماس في وحل الرذيلة واتباع الأهواء والشهوات والتي منها الجاهلية التي سبقت البعثة النبوية لخاتم الرسل محمد صلوات الله عليه وعلى آله والتي سميت بالجاهلية الأولى أو الصغرى وكذلك الجاهلية المعاصرة أو ما يسمى بالجاهلية الكبرى وهي الجاهلية التي أخبرنا بها رسول صلوات الله عليه وعلى آله وحذرنا منها بقوله (بعثت بين جاهليتين أخراهما أكبر من أولاهما) ونحن هنا سنقارن بين تلك الجاهليتين في بعض الجوانب لنتعرف على أيهما أشد ضررا على الواقع البشري.
أولا: من حيث الشرك بالله
لقد عم الضلال الفكري والديني إنسان الجاهليتين معا ففي الجاهلية الأولى توجه الناس لعبادة أربابا من دون الله فعبدوا الأصنام والتماثيل وسجدوا لها واعتقدوا فيها المنفعة والضر وقدموا لها القرابين والنذور والبعض من الناس نصب نفسه إلهاً يعبد من دون الله والبعض الأخر عبدوا الكواكب والنجوم والبعض عبدوا أصنافا من الحيوانات وغير ذلك من ألوان الشرك وأصنافه وهذا يدل على غباء ذلك الإنسان وابتعاده عن هدى الله.
أما في جاهلية اليوم فقد ألبس الشرك لباس الدين القويم وقدم عوضا عن دين الله وباسم الدين نفسه، فحرفوا مفاهيم الدين الحقيقي وعقائده واستبدلوها بالأهواء والضلالات حتى صار مسلم اليوم يتقبل أفكار الضلال ويرى فيها الهدى والحل والمخرج بل ويتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى وهذا النوع من الشرك أخطر من عبادة الأصنام والأوثان، لأنهم أضفوا عليه شرعية سماوية فخدعوا الكثير من البسطاء فراج هذا الشرك وانتشر بشكل واسع بين أوساط العامة حتى صار الأغلبية يتعبدون لله بالكفر ويتقربون إليه بالمعاصي ناهيك عن تلك المذاهب الفكرية التي أعلنت الإلحاد والكفر بالله ودعت إليه.
كما أن هناك أيضا من يسعى لتقديم الكفر كضرورة حياتية لا يمكن الاستغناء عنها لأن الدين في نظرهم حجر عثرة أمام تطور الحياة واستمراريتها ولذا نادوا بفصل الدين عن الدولة وأرادوا بذلك انزواء الدين ومحاصرته في بوتقة ضيقة حتى لا يبقى له أثر في حياة الناس لكي تعلوا راية الكفر والالحاد وهذا النوع من الكفر غلف بدعوى التحرر من قيود الدين لأنها تحد من حرية الفكر وتقلص من إمكانية التحضر بمفهومها المعاصر- حسب قولهم – وعلى هذا الأساس اطلق البعض من دعاة التحرر في البلدان الإسلامية ثقافة الانحلال عن مبادئ الدين وقيمه وطالب بإطلاق العنان للأفكار الضالة والسلوكيات المنحرفة وجعلوا من الإسلام وصمة عار في جبين أتباعه وسببا في تخلفهم وفقرهم فعمدوا إلى تشويه دين الله وتشكيك الناس فيه وتحريض العالم عليه وتشجيع المنتمين لهذا الدين إلى تركه والتوجه نحو المذاهب الإلحادية.
وقد لقيت هذه الأفكار للأسف الشديد رواجا بين شباب المسلمين وخاصة في الدول ذات الترف الاقتصادي كالسعودية والإمارات فقد أصبحت هذه الظاهرة منشرة بكثرة وكثيرا ما نسمع بشباب وشابات خليجيون يعلنون كفرهم بالله وبرسوله وبدينه ويلتحقون بمعسكر الالحاد وهذا هو أشد أنواع الكفر والشرك خطرا وضررا لأنه يأتي بعد معرفة بهدى الله وبرسوله وبالقرآن الكريم والسبب في ذلك الانحراف عن منهج الله وهجر القرآن الكريم بالإضافة لما يمتلكه مشركو اليوم من وسائل ماكرة وأساليب خبيثة لها تأثيرها القوي على ضعاف الإيمان فيزينون لهم الباطل حق والشرك غاية ومن هنا فإن جاهلية اليوم هي أكثر كفرا وإلحادا وشركا بالله سبحانه وتعالى.
ثانيا: الفساد في الأرض
إن غياب الهدى من واقع الحياة يعني بالضرورة ظهور الفساد وانتشار الباطل وهناك من الشواهد التاريخية ما يؤكد هذه الحقيقة وإذا ما قارنا بين فساد الجاهليتين تأكد لنا أولا أهمية هدى الله في ديمومة الحياة على كوكب الأرض قال تعالى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة} وأن منشأ هذا الفساد هو الناس قال تعالى{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وأن له آثار سيئة أهمها عذاب الله وسخطه كما حدث لآل فرعون قال تعالى{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}.
كما توضح لنا الخطورة الشديدة لفساد جاهلية اليوم وأن ضرره على البشرية أخطر بكثير من فساد جاهلية الأمس فالواقع اليوم مشحون بالفساد في كل شيء، إذ لا يكاد يخلوا جانب من جوانب الحياة من الفساد حتى أصبح كارثة كبرى تعاني من البشرية في كل شؤون حياتها فكل آثام الأمم الماضية ومفاسدها حاضرة وبقوة في هذا العصر، فالفساد الأخلاقي والقيمي قائم ومنتشر والفساد الاقتصادي والمالي حاضر وقوي والفساد الفكري والثقافي موجود وبارز وأينما يممت وجهك رأيت صورا واشكالا من الفساد لا يسعنا ذكرها هنا لكن لنأخذ الفساد في الجانب الاقتصادي كمثال على عظم المصيبة وكبر الجاهلية التي يعيشها العالم المعاصر وما ألحقه هذا الفساد من أضرار كثيرة وكبيرة على سكان المعمورة والتي منها:
- أعاق النمو الاقتصادي العالمي مما قوض كل الخطط التي تستهدف التنمية طويلة وقصيرة الأمد.
- أهدر الأموال وأساء استغلالها فيما لا يعود على الناس بمنفعة.
- قلص الاستثمارات النافعة وطور الاستثمارات الضارة.
- أخل بالعدالة في توزيع المال فأدى لتوسيع الفروق بين الطبقات المجتمعية.
- أضعف الإيرادات العامة ونما أرصدة المستغلين والمرابين.
- أفشل الكثير من الخطط التنموية المبنية على المصالح المشتركة والعامة.
- أفقر المجتمعات البشرية بتأثيراته السلبية على الموارد الطبيعية واحتكاره للجانب الصناعي والتجاري في طبقات محدودة.
- أثر على النظام البيولوجي الطبيعي لكوكب الأرض وأوجد كوارث طبيعية أبرزها ظاهرة الاحتباس الحراري الذي سبب في جفاف الموار المائية والغذائية لسكان المعمورة.
- شوه دور الحكومات وصنع من معظمها حكومات استغلالية وهمية تخدع الناس باسم التنمية.
- أضاع هيبة الشراكة وأحل محلها الرأس مالية المحتكرة التي أضعفت بدورها كل الجهود الشريفة والكفؤة التي تستطيع إصلاح الوضع الاقتصاد العام.
ثالثا: الضلال
الضلال معناه فقدان الصواب والخروج عن دائرة الحق ومسيرة الهدى والسير وراء الأهواء والرغبات والخرافات والضلال هو عكس الهدى وهو طريق الشيطان ومسيرته.
أما عن حجم الضلال في الجاهلية الأولى فيكفينا أن نعرض قول الشهيد العظيم جعفر الطيار سلام الله عليه عندما وصف تلك الجاهلية للنجاشي ملك الحبشة بقوله (أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأت الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وأن نستحل الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك) وعلى ذلك فقس بقية الأمم في أرجاء المعمورة.
أما اليوم فقد طور الضلال من أساليبه ووسائله وتلونت طرقه وهيئاته وظهرت أصناف جديدة منه في الواقع البشري لم تكن موجودة لدى بشر الجاهلية الأولى فلو نأخذ مثلا الضلال في مبدأ الولاء والعداء نجد أن هذا النوع من الضلال قد تطور وتغير كثيرا عما كان عليه سابقا فقد كان اليهود في العصر الجاهلي الأول هم من يخطبون ود القبائل العربية و يتسابقون على العيش في ظل حمايتها مقابل إتاوات مالية يدفعها اليهود لزعماء تلك القبائل لكن ولاء اليوم قد اختلف كثيرا فأصبح المتبوع يدفع أجرة سفك دمه ونهب ثروته واحتلال أرضه وهتك عرضه كما هو حال عرب اليوم المطبعين مع أهل اليهود الذين يدفعون أموالهم وثرواتهم ثمن احتلال أرضهم وإراقة دمائهم وليس مقابل حمايتهم كما كان يفعل يهود يثرب.
أضف إلى ذلك تحرك الكثير من قادة الأمة وعلماؤها ومثقفوها تحت الراية الأمريكية والإسرائيلية ليدجنوا الأمة لأعدائها الحقيقيين ويستقطبوا كل فئات الأمة إلى جانبهم فصنعوا من الصمت والرضى بالظلم دينا يتعبد به وزجوا بفريق كبير من المسلمين نحو الخنوع والاستكانة والصبر على الذل والهوان بينما انطلق فريق آخر نحو العمالة والتجسس لصالح الأعداء مقبل فتات الفتات من ثروات الأمة متصورين أن ذلك العمل شرفا لا يناله إلا ذو حظ عظيم وكأننا أمة ننتمي إلى دين مبادئه وقيمه وأخلاقه ورمزه و قدواته تسمح بالتجند في صف الطاغوت أو تقبل بالظلم وتتغاضى عن الجريمة والعدوان وليس الدين الذي يقوم على القسط والعدل والحق.
رابعا: إهلاك الحرث
لم تكن الجاهليتين بمفاسدهما وضلالهما بمنأى عن التأثير على المحيط الطبيعي والواقع المعيشي فكلا الجاهليتين لهما تأثيرهما السلبي على الموارد الطبيعية ففي الجاهلية الأولى كانت المعاصي قائمة والمفاسد منتشرة وتبعات ذلك وآثاره على الطبيعة معروف بما تسببه من كوارث طبيعية وقلة أمطار وجفاف وتصحر وعبث بشري بتلك الموارد غير أن ذلك التأثير كان نسبيا وقليل جدا إذا ما قارناه بتأثير الإنسان في الجاهلية المعاصرة ولذا بقيت كثير من الموارد الطبيعية في مأمن من الصلف والسرف البشري نتيجة شح الإمكانات وقلة الخبرة وغياب الوسائل التدميرية المتطورة التي يمتلكها إنسان الوقت الحاضر.
أضف إلى ذلك أن إنسان الجاهلية الأولى لم يملك هذا الكم الهائل من المصانع المتنوعة في كل المجالات والتي لها تأثير سلبي وضرر كبير على الحياة البيولوجية على كوكب الأرض نتيجة لغياب الرشد والهدى الذي يضبط تصرفات البشر أضف إلى ذلك إتباع إنسان اليوم لأساليب خاطئة ووسائل ضارة دون مراعاة لأبسط الحقوق الحياتية للكائنات الحية بما فيها الإنسان وهذا التصرف الضار والخاطئ جنى على البشرية وظلمها وكلفها الكثير من سعادتها واستقرارها وصحتها وسلامتها فالأوبئة والأمراض والتصحر والانقراض لكثير من الحيوانات والنباتات كان وراؤه إنسان غارق في الجهل والضلال.
كما أن التنافس بين قوى الاستكبار المعاصرة على الهيمنة الاقتصادية خلقت مآسي حياتية كبرى لمعظم الموارد الطبيعية على كوكبنا نتيجة الاستهلاك الجائر والعبث والاسراف والجهل بمآل تلك المصادر مما سبب لشح كبير في تلك الموارد وهذا بدوره خلق مآسي غذائية كبيرة دفعت بكثير من البشر نحو المجاعات والفقر والبطالة وغيرها من الآثار السلبية الناتجة عن غياب الرؤية الاقتصادية المنبثقة من هدى الله واتباع سياسات اقتصادية قائمة على الرباء والاحتكار والجشع والطمع فعرضت البشرية لحرب إلهية أفقدتها الكثير من مقومات الحياة الكريمة وأوصلتها إلى الحضيض الاقتصادي.
أضف إلى ذلك تدخل الإنسان المعاصر في تغيير بنية بعض المصادر الطبيعية تحت مسمى التعديل الوراثي طلبا للمنفعة وإذا به يهلك ذلك الحرث ويجنى على البشرية أكثر مما أفادها إذ فقدت كثير من تلك الكائنات الحية والنباتات المعدلة قيمتها الغذائية وأصبحت واحدة من أبرز مشاكل الغذاء العالمي العصر أضف إلى ذلك ما تسعى إليه كبرى الشركات اليوم من ابتكار وسائل وأساليب لتطوير الغذاء الصناعي بحجة الأمن الغذائي وهم إنما يسعون بدافع النهم المالي والتحكم بقوت العالم وغذائه ولا ننسى أن نذكركم بمساوئ الصناعات المتعلقة بالجانب الزراعي والحيواني كالأسمدة والمبيدات الحشرية وأعلاف التسمين وغيرها وما لها من تأثير سلبي على صحة الإنسان والحيوان والنبات وعلى خصوبة التربة وفقدان تلك المنتجات لجودتها وقيمتها الغذائية وهذا كله فيه إهلاك للحرث.
خامسا: اهلاك النسل
أما عن دور الجاهليتين في اهلاك النسل فنجد أنهما متقاربتان في ذلك ففي الجاهلية الأولى كان اهلاك النسل قائما ولم يكن هناك حرمة للدم البشري مطلقا بل يعيش الناس في غابة من الوحشية يقتل الأخ أخاه والأب ابنه وتغير القبائل على بعضها بعض وتسعر الحروب بين أقطاب العالم من وقت لآخر وما ينجم عنها من قتل وتهجير وسجن وتعذيب ودمار اجتماعي وغير ذلك.
لكن جاهلية اليوم هي أظلم وأطغى فقد بلغت في اهلاك النسل مبلغا كبيرا بدأ بما يسمى ثقافة تحديد النسل أو القتل المسبق وقد أصبحت هذه الثقافة أفتك سلاح يهلك النسل البشري وكذلك ثقافة الإجهاض التي أصبح مرحبا بها في كثير من دول العالم.
أما عن الحروب كوسيلة من وسائل إهلاك النسل فالفرق واضح وكبير جدا ففي مسيرة رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله الجهادية لم يبلغ القتلى من كلا الطرفين ألفي قتيل رغم أنه أحدث تغييرا جذري في كل الجوانب بين العرب أشرس البشر وأشدهم غلظة وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله.
أما إنسان الجاهلية المعاصرة فهو الأكثر دموية والأكبر اهلاكا للنسل ففي اليابان قتل في هيروشيما وناجا زاكي ما يقارب 250 ألف وحدهما واسفرت حرب واحدة من الحروب الحديثة هي الحرب العالمية الثانية عن مصرع ما يقارب من أربعين مليون إنسان وتشريد مئات الملايين وتدمير بلدان بأكملها بل وأبتكر إنسان الجاهلية الحديثة حرب الإبادة الجماعية من خلال السلاح الكيماوي والسلاح البيولوجي فطورت كثير من الجراثيم والفيروسات القاتلة كالجدري والجمرة الخبيثة وانفلونزا الطيور وكورونا وغيرها واطلقتها لتحصد أرواح الملايين فأبيدت كثير من الأقليات العرقية ناهيك عن تأثير الحروب المتوالية والمستمرة والتي يروح ضحيتها بشكل يومي الآلاف من البشر فالقتل في هذا العصر بات سمة بارزة وحياة يومية تعيشها شعوب العالم ومنها بغير قصد كمخلفات المصانع وما تسببه من تسمم هوائي وغذائي يقتل الكثير من البشر بالسرطان وغيره من الأمراض الفتاكة.
كما عمدت الجاهلية الحديثة إلى إهلاك النسل من خلال تدمير النسيج الاجتماعي للأسرة عن طريق الفساد الأخلاقي فكثير من المساوئ الأخلاقية أثرت بشكل كبير على النسل البشري ورغم أنها وجدت في الجاهلية الأولى إلا أنها اليوم أكثر ضررا وأكبر خطرا على المجتمع البشري من أي وقت سابق وخاصة مع تطور وسائل الإفساد واتاحتها للجميع كوسائل التواصل الاجتماعي وإقامة أماكن خاصة للدعارة وتلقيها الدعم السخي والتسهيلات والترويج والدعاية من قبل قوى الاستكبار وأنظمة الفساد كالنظام السعودي وغيره من الأنظمة
ومعروف خطورة الفساد الأخلاقي بكل أصنافه وألوانه على وحدة الأسرة والمجتمع وما يسببه من ضياع القيم والفضائل في المجتمعات البشرية وجرها نحو الهمجية والبهيمية بغية ضياعها وتلاشيها والتمهيد لجرها نحو الانقراض أضف إلى ذلك تسببها في سخط الله ومقته ونزول عقوبته وعذابه ونقمته.
كما أن من أهم ما يؤثر على النسل هو التمييز العنصري وهذه السيئة كانت موجودة في الجاهلية الأولى ومتمثلة في الرق والعبودية والعرقية والمناطقية ولون البشرة واللسان وغير ذلك من دواعي العنصرية ومع أن الإسلام الحنيف حارب التمييز العنصري بكل أشكاله وعالج القضايا الناجمة عنه كقضية الرق إلا أنها نمت في أوساط العالم اليوم وجاءت بأشكال وألوان ونكهات مختلفة جعلتها أكثر ضررا وأشد خطورة وأطول تأثيرا على النسل البشري وحينما نأخذ الهنود الحمر السكان الأصليين في الأمريكيتين كمثال لضحايا العنصرية نجد أن هؤلاء وحدهم قتل منه أكثر من خمسين مليون هندي بدافع عنصري مقيت مبني على لون البشرة ناهيك عن ما لاقاه العالم بأسره من شرور العنصرية اليهودية والنصرانية المقيتة.
سادسا: الظلم والاضطهاد
أما عن الاختلاف بين الجاهليتين من حيث الظلم والاضطهاد فقوى الاستكبار في جاهلية العصر الحديث هي أشد ظلما وأكثر اضطهادا والتاريخ مليء بالشواهد الكثيرة ومن الشواهد الحية ظلم الشعب الفلسطيني واضطهاده من قبل المغتصب اليهودي المدعوم من قوى الاستكبار العالمية وفي مقدمتها أمريكا وبعض الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا وهذا دليل على أن العالم يعيش اليوم في جاهلية هي أكبر بكثير مما كان يعيشه أسلافه السابقين للإسلام.
وعندما نأخذ الظلم الأمريكي للعالم كمثال نجد مصداقية حديث رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله بأن هذه الجاهلية هي أكبر بكثير من تلك الجاهلية السابقة فالنظام الأمريكي وحده يمثل نقطة سوداء في جبين العصر الحديث بل هو سوأة من سوءات الجاهلية المعاصرة وربما يوازي ظلمه لشعوب العالم وأقلياته ظلم الجاهليات السابقة كلها إذ لا يكاد يخلوا شعب من شعوب العالم اليوم إلا ولحقه الظلم والاضطهاد الأمريكي والإسرائيلي حتى تلك الشعوب الأوروبية التي تسانده وتشاركه في جرائمه فكثيرا ما يرتفع صوت أنينها من الاضطهاد الأمريكي والإسرائيلي وإن تظاهرت بالشراكة معه ناهيك عن عدد من البلدان التي دمرها الأمريكيون تدميرا شبه كلي مثل اليابان وفيتنام وكوبا وأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من البلدان التي تقبع تحت وطأة المارد الأمريكي الباغي الظالم الذي ينهب ثرواتها ويستبح كرامتها وسيادتها ويتدخل في صناعة أنظمتها والحياة اليومية فيها ويعمد للسيطرة على قوتها واقتصادها ويبغي عليها في كل شيء وخاصة دول العالم الثالث هذا النظام المتغطرس الذي لم يرحم حتى أولئك الذين يقبلون نعاله كالأنظمة الخليجية وفي مقدمتها النظامان السعودي والإماراتي وكل ذلك الظلم والطغيان لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية وهذا يؤكد أننا فعلا نعيش في جاهلية جهلاء ربما لم يسبق لها مثل في كل عصور التاريخ.
كما يؤكد على أن المخرج منها هو بالرجوع الجاد إلى هدى الله الذي له جدوائية كبيرة في صلاح حياة الناس، لأن الإنسان كلما أحس بالمسؤولية وآمن بها كلما انضبط أكثر في تصرفاته من منطلق التعليمات والتوجيهات الإلهية الحكيمة والصالحة والنافعة التي هي من الله سبحانه وتعالى الملك القدوس العليم الحكيم، وبالتالي يتحرك على نحو مسؤول في واقع هذه الحياة من منطلق هداية إلهية.