يحيى الشامي
تمهيد
كي لا تحوّلنا التحليلات مع زحمتها هذه الأيام إلى متلقّين سلبيين أو مجرّد ناقلين أو مجموعة من القلقين تهزهم رياح الشرق وتميل بهم عواصف الغرب، كي لا نكون كذلك، لا بد من إجراء مراجعة سريعة 《تقدير موقف》 تساعدنا على استيعاب دورنا وذواتنا و فهم موقعنا الجديد في الخارطة على ضوء تطورات الشهرين الأخيرين بما تمثله من قفزة استراتيجية محلية ودولية.
المقال هنا يحاول قراءة المشروع الذي يتبنّاه اليمن حاليا باعتباره العلامة الفارقة بين تاريخين أو ما يمكن أن نسميه يمنَين اثنين ؛ يمن ما قبل ثورة الـ 21 من أيلول / سبتمبر، ويمن ما بعده الذي أحدث الفرق وأنهى حقب الوصاية ويبرز اليمن كواجهة عربية إسلامية على ساحة الصراع مع الهيمنة الامريكية ومشاريعها في المنطقة.
عن شرعية المشروع وشعاره:
تظل التحليلات التقليدية التي نرصدها وتطالعنا بها يوميا الصحافة الغربية ومراكز الدراسات والبحوث المهتمة، حتى الآن غير كافية لإشباع نهم الباحث والمهتم بالحضور اليمني المفاجئ والقوي وتفسير المشهد والموقف العالي للقيادة؛ ولا تعدو كونها محض سرديات وتنظيرات “عروض لغوية واستعراضات تحليلية”، والحقيقة: أن لا شيء سوى القرآن يمكنه سرد أغوار هذا المشهد الدراماتيكي المعجزة و لا سواه يُفهِنا ما جرى ويجري وينبؤنا بما سيجري
والحقيقة :
أن الإيمان بالوعد الإلهي والثقة بأن الله هو الغالب وله عاقبة الأمور، من الأمور الأساسية في مشروعنا القرآني، والواجب استحضارها والاستبصار بها دائما والاستدلال خاصة في مثل هذه الأحداث الكبيرة.
والحقيقة : أن القرآن لاشك هو السر والمسيرة والمسار والسردية والسبب والدافع والنتيجة والرؤية والمنهج والحق.. الحق الذي يتجلى مع كل حدث ويزداد وضوحا وانتشارا واتساعا ويزيدُ اتباعه يقينا.
والواجب: أن نفتح أعيننا على الأحداث ونتأمل القرآن سنجد أن كل ما يجري شيء من مصاديقه وبعض من مفاعيله التي تؤتي أكلها على يد السيد، والسيد باب الله فينا وحبله وأعظم نعمه علينا.
وفي هذا المقام ثمّة ما يدعونا لتأمّل ما كتب ويكتب عن المشهد اليمني نضع شيئا منه على مشرحة الوعي وتحت مجهر رؤيتنا من زاوية الفهم كيف وإلى أين؟!
في تاريخ الـ19من نوفمبر وتعليقاً على استيلاء البحرية اليمنية على السفينة الإسرائيلية ” جلاكسي ليدر” كتب الخبيرُ الأمريكي آشر أوركابي، (دكتوراه و باحث مشارك ومدرس في جامعة هارفارد. وكان سابقًا باحثًا مشاركًا في المعهد الإقليمي بجامعة برينستون وزميلًا مقيمًا في مركز وودرو ويلسون الدولي. وهو مؤلف كتاب ” ما بعد الحرب الباردة العربية) مقالا بعنوان : (إعلان الحوثي الحرب) تحدث فيه عن ذكاء السيد عبدالملك في التقاط فرصةٍ تاريخية تصعد باليمن إلى صدارة المشهد العربي والاسلامي الداعم لفلسطين ، و أشار الكاتب إلى أن خطاب السيد الحوثي كان على قدر من الحنكة وجاء بمثابة تقديم أوراق اعتماد اليمن في مجموعة دول المحور ، وهو ما قفز باليمن بعيدا في آفاق الجبهة الوحيدة المتصدّية لـ”إسرائيل”، وفي ظل سخط شعبي عالمي كبير، وقد نفّذ بالفعل وعوده حين ضرب “اسرائيل” مع احتساب دقيق لعواقب الخطوة، على المستوى الإقليمي.
وعلى الصعيد المحلي يرى الكاتب أن قيادة أنصار الله نجحت في تجاوز ما يسميها الحرب الأهلية في اليمن وجاءت العملية بمثابة إعلان لانتصار من يسميهم “الحوثيين” على خصومهم الذين لن يجدوا ،بعد اليوم، مجالا للمنافسة أو فرصة للتغلب على “الحوثي”.
يسهب الكاتب في الحديث عن نتاجات قرار السيد عبدالملك في مساندة مقاومة فلسطين باعتباره ذكاء و”انتهازية” وغيره من حسابات الربح والخسارة ، ومع أن الكاتب يغفل أو يتغافل تمحور القضية الفلسطينية في صلب المشروع القرآني الثوري للأنصار في اليمن لكنه قدم قراءة سليمة “في نهاية المقال” حين استشرف حدود المساندة اليمنية لفلسطين حين يقول:
(ليس هناك شك في أن قوات الحوثيين ستستمر في إطلاق الصواريخ على إسرائيل، مع العلم أنه حتى الفرصة الضئيلة لنجاح الضربة من شأنها أن ترفع مكانة مجموعتهم في المنطقة بشكل كبير. ومع ذلك، فإن خطر صعود الحوثيين وتشددهم لا يقتصر على الأراضي الإسرائيلية والسعودية. ويطل الجزء الذي يسيطر عليه الحوثيون في اليمن على نقطة الاختناق البحرية المهمة في مضيق باب المندب. يبلغ عرضه تسعة وعشرين كيلومترًا فقط في أضيق نقطة له، وهو رابع أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم، ويربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي. ويستضيف هذا الممر المائي الحيوي، الذي يؤدي مباشرة إلى قناة السويس، 33 ألف سفينة سنويا ، يحمل الكثير منها 6.2 مليون برميل من النفط يوميا، أي ما يقدر بنحو 9 في المائة من إمدادات النفط اليومية في العالم. وسبق أن قام المسلحون الحوثيون بفحص الدفاعات الأمريكية والأوروبية على طول الممر المائي وهددوا بمنع الوصول إلى المضيق الحيوي انتقاما لأي هجوم على الأراضي اليمنية. يمكن أن تؤدي هجمات الحوثيين إلى زعزعة استقرار خطوط الشحن، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط واحتجاز التجارة العالمية كرهينة، سيكون لإعلان الحوثيين الحرب على إسرائيل تداعيات محلية وإقليمية وعالمية. وسوف يتم إعلان النصر في الحرب الأهلية في اليمن، بعد أن لعب الحوثيون أقوى أوراقهم في مهاجمة إسرائيل واستغلال المشاعر الشعبية الصاخبة التي تحتفل بعنف حماس.
الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الحوثيون حولت التهديدات المحتملة في منطقة الشرق الأوسط الأوسع إلى مخاطر حقيقية وأجبرت العالم على تركيز الاهتمام عليها. ومع ذلك، فقد بدأنا للتو في رؤية تداعيات هذه المخاطر.)
الغرب: قراءة مشبوهة لتشويه المشروع:
من الواضح أن نخب الغرب ودوائر التأثير فيه تتعمد حرف الموقف اليمني عن امتداداتهِ الأصيلة الضاربة في جذور الهوية اليمنية من خلال تقديم قراءة غير واقعية لخلفيات وأبعاد المساندة اليمنية لفلسطين ويجتزؤون عن قصد جزئية العمليات اليمنية -التي حظيت بإجماع شعبي إسلامي قل نظيره- عن سياقاتها الدينية وحتى القومية، المتجذرة عمقاً لدى الشعب اليمني والمتجلية في كل محافله واحتفالاته.
أقلام قومية وإجماع نخبوي:
لقد أحيا اليمنُ مشاعر دفينة جامحة وجامعة وعزز شعور الانتماء بالهوية الدينية والقومية وقد دفنت تحت أكوام تطبيع الأنظمة العميلة ؛ وهذا لوحده أخشى ما تخشاه أمريكا وأكثر ما يقلق “اسرائيل”.
يقول الصحفي اللبناني ناصر قنديل إن غياب اليمن عن المشهد خلال العقود الماضية هو أمر غير طبيعي والطبيعي هو أن يتسيّد اليمن المشهد، معتبراً أن الأنظمة السابقة رهنت اليمن الكبير لأشقائه الصغار المرتهنين بدورِهم للأمريكي، مؤكداً أن المهتمين والمتابعين للمشهد اليمني لن يتفاجؤوا البتة مما يقوم به حالياً من عمليات استراتيجية تأتي في سياق استعادة دوره الجيوسياسي والتاريخي الكبيرين.
وتواترت منذ بدء العمليات اليمنية قراءات محللين وكتاب عرب معظمها ترى أن ما يقوم به اليمن أكبر من مجرد دور مساند لمقاومة غزة ويتعدّاها إلى ما يمكن اعتباره استعادة الهيبة العربية المفقودة إثر خسارة العرب لجولات الصراع مع العدو الاسرائيلي في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ويرى غالبيةُ المراقبين -في ما يُمكن اعتباره إجماعاً نادراً- أن ما تقوم به القيادة اليمنية والقوات المسلحة يؤسّسُ لمرحلةٍ جديدة وقوية للأمن القومي العربي، وأن العرب مدينون جميعاً لليمن المقاتِل بالنيابة عن كل الأنظمة العربية خاصة تلك الواقعة في نطاق التهديد الجيوبولوتيكي للعدو الاسرائيلي أو ما تعرف بدول الطوق (مصر، الاردن، سوريا ولبنان)، تقول الكاتبة اليمنية منى صفوان في معرض تحليلها إن الرد اليمني يتجاوزُ كثيراً حدود اللحظة الفلسطينية وتذهب مفاعيله إلى آفاق الحدث العالمي المؤثر في المشهد الإقليمي، وترى أن ما قامت به صنعاء يستوجب اصطفاف جامع لكل القوى المحلية باعتباره المشروع العربي المواجه للمشروع الاسرائيلي في الوقت الراهن.
مرحلة فارقة و فاصلة
وتعد غزة امتحانا حاسما ومفصليا في المنطقة للأنظمة والشعوب حيث ستعيد أحداثُها تشكيل خارطة القوى وفق المنتصر والأقدر على الصمود، وهي حقيقة يدركها الطرفان وما جعل من غزة تحظى باهتمام عالمي غير مسبوق حيث طغت أحداثها وأخبارها على جميع الأحداث والأخبار على مستوى العالم، وكثيرا ما يُعبّر المسؤولون الصهاينة عن قلقهم من نتائج المعركة وهو قلق وجودي له مبرراته ودوافعه وأسبابه التاريخية والاجتماعية والعقدية ، كل هذا يجعلنا أمام مسؤولية استثنائية تستوجب أن رفع مستوى المساندة والتعزيز وأن نلقي بثقلنا الشعبي والرسمي كاملاً في جعبة الجهة المقابلة والمواجهة للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة والإقليم وفي أخطر مرحلة وأهم جولة من الصراع.
ما أريد قوله أن الموقف اليمني منطلق من رؤية واضحة وقناعة راسخة منبثقة من المشروع القرآني الذي يتحرك اليوم على هداه اليمنيون وفق مرتكزاته الثلاث: منهج أصيل منسجم مع هوية الشعب وقبلها مع فطرة الإنسان ، و شعب مؤمن بالله واثق بوعوده ومضحٍ في سبيل ما يؤمن ومتفانٍ وعظيم الاستعداد وحاضر في كل قضايا أمته وفي طليعة الشعوب المُسلمة، الركيزة الثالثة هي القيادة المرتبطة بالناس والمتفاعلة معهم والتي تعكس تطلعاتهم وتعبر عن همومهم والتي نجحت كما لم يسبق لقيادة أن تربط بين التطلعات الأممية والهموم الشعبية.