نواصل الحديث على ضوء الآية القرآنية المباركة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: الآية 27]، وتحدثنا عن بعضٍ مما ينطبق عليه أنه من الخيانة لله، والخيانة للرسول، والخيانة للأمانة، ولا شك أيضاً أنَّ من صور الخيانة ومن أشكالها، من أشكال الخيانة لله -سبحانه وتعالى- وللرسول، والخيانة للأمانة مع بعض، الخيانة لذلك كله هو: عندما يخون الإنسان المبادئ والقيم الإلهية،
والتمكين الإلهي، الذي كان على أساس التحرك تحت عنوان تلك المبادئ والقيم، فعندما يتحرك الإنسان باسم أنه مجاهدٌ في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، ويسعى لإقامة الحق والعدل، ويقف بوجه الظلم، ثم عند التمكين الإلهي، وبعد التأييد الإلهي، والذي أتى على أساس التحرك بهذه العناوين، وبهذه المبادئ، وبهذه القيم، وضحى الكثير بأنفسهم في سبيل الله من أجل ذلك، يستغل الإنسان من موقعه في المسؤولية: إما كقائدٍ عسكري... أو في أي موقع من مواقع المسؤولية، يستغل موقعه في المسؤولية، ومنصبه المعين، والإمكانات التي بيده وهي لسبيل الله، أو هي للحق العام، والموقع الذي وصل إليه بعد تضحيات وجهود كبيرة من أجل قيمٍ عظيمة، من أجل مبادئ عظيمة، من أجل عنوانٍ عظيم: من أجل سبيل الله، من أجل الله، من أجل الحق، من أجل دفع الظلم، يستغل موقعه، منصبه، فيمارس الظلم من موقعه: إمَّا الظلم للناس في أنفسهم: قتلاً، أو سجناً، أو تعذيباً، أو اضطهاداً، أو إذلالاً، بالقول (بالكلام)، عندما يطلق كلمات من موقع التجبر والاستكبار والإساءة والاحتقار، أو التهديد والوعيد بغير حق... أو نحو ذلك، وبالفعل مثلما أشرنا: بقتل، أو بسجن... أو غير ذلك، أو على ممتلكات الناس، أن يقتطع أرضاً لشخص، أو يأخذ حقاً على شخص، أو يبتز إنساناً في ماله، فيأخذ عليه من ماله، وعندما ينطلق مستنداً إلى ما قد بلغ فيه من التمكين ضمن أمة تحركت على أساس مشروعٍ قائمٍ على أساس إقامة العدل والحق، فهو يخون الله، يخون التمكين الإلهي، يخون تلك الأمة، يخون تلك المبادئ، يخون تلك القيم، يخون كل الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله -سبحانه وتعالى- من أجل إقامة الحق، وإقامة العدل، وليس من أجله شخصياً؛ لكي يصل إلى مرحلة من المراحل فيأخذ تلك الأرض، أو يسطو على تلك الممتلكات، أو يبتز ذلك الإنسان ماله، أو يمارس ممارسات إجرامية، وممارسات ظالمة.
خيانةٌ كبيرة من أي شخص، وخيانةٌ في مسيرتنا القرآنية لهذه المسيرة المباركة من أي شخصٍ كان: قريباً أو بعيداً، في أي موقعٍ من مواقع المسؤولية، أن يستغل موقعه أو منصبه لكي يمارس الظلم، لكي يتجبر، لكي يتحول إلى طاغية، لكي يتفرعن، ثم لا هو يستجيب للتذكير بآيات الله، ولا هو يرتدع عندما يذكَّر، ولا هو ينزجر عندما يذكَّر أيضاً بأخذ العظة والعبرة من الطغاة والمجرمين، مثل هذه النوعية لا يجوز السماح لها أبداً أن تواصل مشوارها الظالم، وتفلّتها في ممارسة الطغيان والإجرام، ويجب التعاون من الجميع لمنع أي إنسان يتحول إلى طاغيةٍ مجرم، ويخون المبادئ والقيم العظيمة، ثم لا يتذكر إذا ذُكِّر بآيات الله، لا يجوز أبداً السماح له بمواصلة هذا النوع من الخيانة والإجرام بحق الناس، والخيانة لله، والخيانة للمبادئ والقيم العظيمة.
والمجتمع معنيٌ، المجتمع المسلم، المجتمع المؤمن، الذين آمنوا معنيون أن يتعاونوا على البر التقوى، وأن يمنعوا العدوان، وأن يمنعوا الإثم، وأن يحاربوا الخيانة، وأن يتصدوا لكل أشكال الخيانة، وأن يعملوا- إضافةً إلى المنهج التربوي والتذكير- إلى منع الخيانة، ومنع الخونة، الإنسان الخائن هو منحط، هو دنيء، نفسيته نفسية فاسدة، لا يصل الإنسان إلى مستوى الخيانة، وإلى مستوى الإصرار على الخيانة، وعدم القبول بالتذكير حتى بآيات الله، إلَّا وقد تحول إلى إنسانٍ دنيءٍ منحطٍ مجرمٍ، فقد الخير في نفسه، فقد الإيمان في نفسه، فقد الزكاء في نفسه، إما أنه قد امتلأ بالغرور والكبر والطمع والهوى، وأصبح يتحرك من واقع المزاج الشخصي، وفقد التقوى، لم يعد يتقي الله؛ حينها يجب منع هذا النوع من الناس من ممارسة جرائمهم وظلمهم، والاستمرار في خيانتهم، هذا مما فيه حياة المجتمع المؤمن: أن يكون مجتمعاً حياً، لا يفتح المجال للذين يتسلَّقون على الأكتاف، والذين يستغلون التضحيات الجسيمة، إذا كان الإنسان يريد أن ينحو هذا المنحى الإجرامي الطغياني الظالم، فليتحرك كفرد (بمفرده)، لا يستند على ظهور وأكتاف أمة مؤمنة، مضحية، مجاهدة، مقدِّمة، معطاءة، لا يستند إلى ذلك الرصيد من الشهداء، الذين قدَّموا أنفسهم وأرواحهم في سبيل الله، ليس من أجله ليتحول إلى قائد عسكري، أو مسؤول معين، أو في منصب معين، فيمارس ذلك الظلم، ليس من أجل ذلك قدَّموا أرواحهم وحياتهم، وليس من أجل ذلك قدَّم الآخرون معهم المال والغالي والنفيس، والتضحيات الكثيرة.
هنا أنتهز هذه المناسبة في الحديث عن هذا الموضوع؛ لأذكر كل الذين ينتمون إلى مسيرتنا القرآنية في أي موقعٍ كانوا، في أي منصبٍ كانوا، وفي أي مستوى كانت صلتنا بهم: أننا لن نقبل لهم ولن نرضى لهم أبداً بأن يستغلوا هذه المسيرة القرآنية، وما فيها من التضحيات والجهود والشهداء، والمسؤوليات الكبرى التي نهضت بها أمة مؤمنة، مضحية، مجاهدة، على رأسها صفوةٌ من عباد الله، ومن الأخيار من أولياء الله؛ لكي يتسلقوا ظهر هذه المسيرة وأكتاف هذه الأمة، ثم ليمارسوا الظلم، ثم ليبتزوا هذا ماله، أو ليأخذوا على هذا أرضه، مثل هؤلاء الناس لن نرضى لهم بذلك أبداً مهما كان، مهما حصل، مهما وقع، مهما كانت صلتهم بنا، أو قرابتهم منا، أو علاقتهم بنا، هذا إنذار تمليه علينا المسؤولية، ويفرضه علينا الواجب، نحن سنسعى بكل جهد إلى أن نحارب كل هذا المستوى من الخيانة، من الظلم، من الإجرام، من أي متسلطٍ أو مجرم، مستعينين بالله -سبحانه وتعالى-، وساعين إلى الحفاظ على نقاء هذه المسيرة، نقاء هذه المسيرة العظيمة التي قدَّمت الآلاف والآلاف من الشهداء، من الوفاء لهم، ومن الوفاء لله، ومن الوفاء للمبادئ والقيم العظيمة في هذه المسيرة، أن نحرص على هذا الموقف، أن نسعى إلى تنقية هذه المسيرة، ألَّا نسمح لهذا النوع من المتسلِّطين المجرمين، الذين يخونون المبادئ والقيم، ويخرجون عنها بممارسة الظلم، والجرائم، والنهب، والابتزاز، وإن شاء الله يعيننا الله على ذلك، ويوفِّقنا في ذلك.
من أشكال الخيانة، والتي باتت في هذا الزمن من الظواهر المنتشرة إلى حدٍ كبير لدى الكثير من الناس، هي: خيانة مال الوقف، الأوقاف هي منتشرة إلى حدٍ كبير، هناك الكثير من المزارع، الكثير أيضاً من الأراضي التي أوقفت، المصالح التي أوقفت، إما كانت وقفاً للمساجد، أو كانت وقفاً للفقراء، تكون غلَّاتها لصالح الفقراء... أو وقفاً في أي وجهٍ من وجوه القربة إلى الله -سبحانه وتعالى-.
وللأسف الشديد مع التقصير في الماضي على مستوى التوعية الدينية والإرشاد الديني من جانب، والتقصير من جانب الجهات المسؤولة، على مستوى الدولة، على مستوى الجهات الحكومية من جانبٍ آخر، بل في مراحل معينة يتحول الجميع مشتركون في هذه الخيانة: الجهات المسؤولة في الدولة فيما مضى، والقائمين على تلك الوقفيات، الذين هم شركاء في تلك الأوقاف، الكل يتعاونون أحياناً في خيانة الأوقاف، هذا يأخذ، وهذا يأخذ.
الأوقاف هي من القرب التي يتقرب بها الناس إلى الله -سبحانه وتعالى-، وعندما يخون الإنسان في مال الوقف، فهو يخون خيانات متعددة: هو خان الواقف الذي أوقف ذلك المال، تلك الجربة، تلك المزرعة، تلك الممتلكات، تلك المصالح التي أوقفها، عندما تخون في مال الوقف، أنت تخونه، تخون الواقف، وأنت تخون الموقوف له، الذي إليه هذه المصلحة المعينة، أو الغلات المعينة تتجه إليه، مسجدا، أو فقراء... أو غير ذلك، وفي نفس الوقت هي خيانةٌ لله -سبحانه وتعالى-، وخيانةٌ للأمانة التي بيدك.
المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 17-05-2020