في قلب صنعاء، حيث تختلط مشاعر الحزن بعنفوان الغضب، ينهض اليمن من بين الرماد أكثر صلابة، كالجبل لا تهزه العواصف. هنا شعبٌ لم يعرف الركوع، ولم يطأطئ رأسه إلا لله. شعبٌ كلما اشتدت عليه الخطوب، ازداد عنفوانًا وقوةً وتماسكًا، كأن الأزمات وقود عزيمته ومصدر شموخه.
قدم اليمن -على طريق القدس- خيرة رجاله، وشيّع في الأمس رئيس حكومة التغيير والبناء وتسعة من الوزراء. لقد ظن العدو الصهيوني أنه بإجرامه سيكسر إرادة اليمنيين، فإذا به يورط نفسه في مواجهة أمة لا تعرف الخنوع. دماء رئيس الوزراء ورفاقه اليوم تصرخ في وجه المعتدي: "الثأر آتٍ، والقصاص قادم، واليمن لا ينسى، ولا يرضى بغير الكرامة طريقًا، ولا بغير فلسطين قضية".
في صباح يختلط فيه وجع الفقد بعطر الفخر، احتشدت الجماهير اليمنية في صنعاء، تودّع شهداءها الذين ارتقوا بنيران العدو الصهيوني، رئيس الوزراء أحمد غالب الرهوي وعدد من الوزراء ورفاقهم. ارتفعت الهتافات الممزوجة بالفخر، وحلّقت الأرواح في فضاء المكان تردد أن القضية لا تموت، وأن دماء الشهداء هي وقود الطريق نحو القدس.
ووسط الجموع المحتشدة في التشييع بميدان السعبين بالعاصمة صنعاء أجرينا استطلاعا مع عدد من الشخصيات الوطنية والدينية، لنحاورهم في لحظة تُشبه الخلود:
مفتي الديار اليمنية العلامة شمس الدين شرف الدين كان وجهه يفيض نورًا وإصرارًا، وحين سألناه عن وقع هذا المصاب قال بصوت يشبه هدير البحر: "نعزي أنفسنا، ونعزي قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، ونعزي قيادتنا السياسية، وجيشنا، وشعبنا، وأمتنا العربية والإسلامية. ارتقى ثلة من الشهداء، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء، وهذا دليل أن اليمن ـ حكومةً وشعبًا، كبارًا وصغارًا- كلهم على أهبة الاستعداد لمواجهة أعداء الله، لا يخشون في الله لومة لائم. نحن في معركة مفتوحة مع أمريكا و"إسرائيل"، معركة "الفتح الموعود والجهاد المقدس"، معركة تحتاج رجالًا لا يعرفون التراجع، رجالًا يربطون مصيرهم بالله وحده.
ما قدّمه شهداؤنا هو نبوءة محمد صلوات الله عليه وآله: الإيمان يمان والحكمة يمانية. الشعب اليمني اليوم جعل خطه الجنة، وسقفه رضوان الله، ولن يحيد عنه مهما عظمت التضحيات."
وأكد أن المواجهة في هذه المرحلة تقتضي رجالا على هذه الناحية من الإقبال على الله والشجاعة والبسالة، موضحا أن الشهداء كانوا يعلمون أنهم في مواجهة مفتوحة مع أعداء الله أمريكا و"إسرائيل"، ومع ذلك لم يخشوا في الله لومة لائم، ولم يتواروا عن الأنظار، ولم يبتعدوا عن الواقع، بل كانوا يؤدون واجبهم الوطني والديني.
نحن في معركة مفتوحة مع أعداء الله "معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس"، ومعنى كلمة الفتح الموعود أن الله سبحانه وتعالى قد وعد بذلك إذ قال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [ المائدة: 52] ، وعد الله بنصره للمؤمنين كائن لا محالة، غير أنه بحاجة إلى رجال على هذا النحو من الإقبال على الله، وبذل أرواحهم في سبيل الله تعالى.
المفتي أشار إلى حديث السيد حسن نصر الله رحمة الله تعالى تغشاه الذي قال فيه قبل أن يستشهد: "نحن عندما ننتصر ننتصر، وعندما نستشهد ننتصر"، مؤكدا أننا على هذا النحو من الإقبال على الله، والأريحية في العطاء لله وفي سبيله، فلا نحزن ولا نأسف ولا نخشى في الله لومة لائم. وعبر عن شكره لله إزاء هذه النعمة التي نحن فيها من هذا الإقبال والجهاد والعطاء، وهذا السخاء الذي قلّ أن يوجد له نظير على المعمورة بكلها، فالكل يتردد ويجعل له سقفا محدودا يتحرك فيه ويتعامل معه، بينما الشعب اليمني لم يجعل له خطا إلا الجنة، ولن يجعل له سقفا إلا رضوان الله.











