إنّ المسرحية الهزلية التي حدثت في الكونغرس الأميركي، لأوّل مرة في تاريخه، تستحقّ وقفة متأنية. فقد قاطع خطاب نتنياهو 112 عضواً من الديمقراطيين في مجلس النواب، كما قاطعه 24 منهم في مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى الجالسين الذين يقرؤون كتاباً ويرفضون الكلام.
لم تكن المفارقة بين حضور مرتكِب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في الكونغرس الأميركي، وبين اجتماع الفصائل الفلسطينية في بكين في الأسبوع ذاته لتكون أكثر دلالة ممّا هي عليه اليوم، ليس فقط للأطراف المعنية في واشنطن وبكين، وإنّما لهذه المرحلة التاريخية المعقّدة من تاريخ البشرية واحتمالات توجهاتها ومآلاتها المستقبلية.
إذ لو أنّ الكاتب المسرحي الآيرلندي، جون أوزبورن، كان على قيد الحياة لوجد في ما يشاهده مسرحاً عبثياً لم يكن ليخطر له على بال، مهما اتقدت قدرته الإبداعية على تخيّل اللامعقول، ذلك لأنّه أن يرتكب مجرم حرب أبشع أنواع الإبادة ضد شعب أعزل يحاول العيش على أرضه، وأن يكون هذا المجرم منبوذاً على مستوى العالم، ثم يحظى باستقبال مجلسي الكونغرس الأميركي، وأن يصفقوا له وقوفاً لأكثر من 50 مرة، وأن يكون هذا هو الاستقبال الرابع له في الكونغرس، وأن يتم ملء مقاعد الأعضاء الذين انسحبوا كي لا تظهر مقاعد فارغة، فهذا مؤشرٌ خطير ليس بشأن المجرم، بل دُعاة "الديمقراطية" الذين استقبلوه وصفقوا له، وبشأن مكانتهم في التاريخ حاضراً ومستقبلاً، ومكانة بلدهم أيضاً الموعودة لأجيالهم القادمة.
إنّ المسرحية الهزلية المركبة التي حدثت في الكونغرس الأميركي، لأوّل مرة في تاريخه، تستحقّ وقفة متأنية. فقد قاطع خطاب نتنياهو 112 عضواً من أصل 212 عضواً من الديمقراطيين في مجلس النواب، كما قاطعه 24 من أصل 50 من الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى الجالسين الذين يقرؤون كتاباً ويرفضون الكلام.
لكن، وبما أنّه تمّ استحضار أناس من مؤيدي نتنياهو لملء المقاعد التي شغرت، فإنّ التصفيق الحاد والمتكرر لم يعبّر عن الكونغرس، وإنّما عمّن تمّ إحضارهم. أي أنّ الكونغرس الأميركي كان ممثلاً من جانب أناسٍ لا علاقة لهم بتمثيل الشعب الأميركي، وأحدثوا كل تلك الضجة الترحيبية بمجرم الحرب باسم الشعب الأميركي، وهو من هذه المسرحية براء.
أمّا أن يظنّ السياسيون في الولايات المتحدة أنّهم قادرون على فعل أي شيء، مهما كان متنافياً مع المنطق والحقيقة والضمير الإنساني برمّته، فهذا من دون شك دليل على أنّهم فقدوا التوازن كلية، وأنهم يتبعون سبيل الغيّ والظلم والنهاية الحتمية، ويظنون أنّهم مهتدون ومدركون لأبعاد ما يفعلون.
تكاد اللغة تعجز عن وصف الدرك الذي تهاوت إليه ما يسمّونه "الديمقراطية والقيم الأميركية"، فأصبحت هذه الديمقراطية وادعاءات حقوق الإنسان مثار استهزاء وتندّر في أصقاع الأرض قاطبة.
حين يقبل أعضاء كونغرس على أنفسهم الاحتفاء بأكاذيب وقحة تدحضها الوقائع والصور العالمية كل يوم، فهذا يعني أنّهم انزلقوا إلى مستوى هو الأدنى في تاريخ الحكومات والشعوب، وأنّه لا قيمة لتمجيدهم بمجرم حرب إرهابي سوى أنّهم حكموا على بلدهم ونظامهم بالانحدار إلى مستوى الإجرام.
وهذا من دون أن يدركوا أنّهم غير قادرين أبداً على مدّ يد العون لإجرامه إلا بالسلاح والمال، ولكنّ قطار البشرية الحقّة قد غادره وغادرهم ولن يأبه بعد اليوم بما يقولون أو يفعلون، لأنّهم فقدوا مصداقيتهم مرة وإلى الأبد، وأوقعوا بلدهم والصهيونية التي يدعمون في خسران مبين، لن يتمكنوا بعد اليوم من تغيير هذه المعادلة الشائنة التي أوصلوا أنفسهم إليها.
وفي الوقت الذي كانت المسرحية الهزلية المخزية تُعرض على شاشة الكونغرس، عقد رانا صنع الله، مستشار الرئيس الباكستاني، مؤتمراً صحافياً بين الحكومة الباكستانية وحركة "لبيك باكستان"، ليعلن أنّ "إسرائيل دولة إرهابية"، وأنّ رئيس حكومتها مجرم حرب، وأنّه ارتكب جرائم ضد مواطنين أبرياء.
وفي الوقت ذاته، كان يهود ومسلمون ومسيحيون يحملون نعوشاً ملفوفةً بالعلم الفلسطيني ليؤكّدوا استنكارهم وإدانتهم لحرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، وليعلنوا أنّهم يفعلون ذلك باسم كل الديانات وباسم كل أعضاء الأسرة البشرية. وكانت محكمة العدل الدولية قد حمّلت الكيان الصهيوني وقادته مسؤولية جرائم الحرب المرتكبة في غزة وفلسطين المحتلة.
وفي هذا الأسبوع بالذات، اجتمعت كل الفصائل الفلسطينية في بكين وبرعاية وجهود صينية، لتوحيد المواقف ووضع خريطة طريق لمستقبل فلسطين المحتلة، بمصادفة أقل ما يقال فيها إنّها تظهر للعيان التوجه الإنساني الصيني المؤمن بحقوق الشعوب والمؤمن فعلاً بضرورة أن يعمّ السلام كلّ العالم، وأن تنتفي من هذا العالم كل القوى التي تسخّر كل الطاقات لشنّ الحروب وارتكاب الجرائم ونهب ثروات الشعوب الأخرى.
لقد ضاق عالم الجنوب ذرعاً بانهيار عالم الشمال وعجزه عن معالجة أي خلل يعتري الحياة السليمة للبشر، ومهما تكن نتائج إعلان بكين كبيرة أو صغيرة، فإنّ الحدث بالتزامن مع هزلية الكونغرس الأميركي يدفع حتى الأطفال أن يقولوا: "كفى"، فبعقول من أنتم تستهزئون؟
أما الأساليب البائسة التي ما زال الصهاينة وداعموهم المتصهينون الغربيون يلجأون إليها من تضخيم قدرات حزب الله واشتغال الإعلام بسيناريوهات يدّعون أنّهم يخشونها، وما هي إلا غطاء لهم لاستمرار حرب الإبادة وعدم التفكير أبداً في إيقاف هذه الحرب؛ لأنّها مقصودة ومدروسة وممنهجة وتهدف إلى إبادة شعب بكامله على مرأى ومسمع العالم برمّته، بينما تحتفي الدولة التي تدعي أنّها الأعظم بالمجرم الأساسي، وتنصت له بدلاً من إيداعه غياهب السجون ومحاسبته أشدّ الحساب على كل جرائمه الشنيعة.
إنّ أقلّ ما يُقال في ما شاهدناه في الكونغرس الأميركي هو أنّ الزمن قد تجاوزهم جميعاً، وأنّ قطار البشرية قد وصل إلى محطة مختلفة تماماً بينما هم بما لديهم فرحون غير مدركين مدى عجزهم عن اللحاق بالمحطة الهامة للبشرية، والتي هي موضع تركيز وعمل واجتهاد كل القوى الحقيقية على الأرض والساعية فعلاً وقولاً إلى بناء مستقبل لنظام عالمي جديد سوف ينفض عن كاهله كل الأسس التي وضعوها بعد الحرب العالمية الثانية، لضمان هيمنة مركزيتهم الغربية على القرارات الدولية وحركة التاريخ.
كل الإمبراطوريات التي تعامت عن الواقع الحقيقي المُعاش، وظنّت أنّها قادرة على ليّ عنق التاريخ؛ لأنّها تمتلك المال والسلاح، فهجرت الأخلاق والحقوق والمصالح العامة للناس انتهت إلى سلة النسيان، وكأنها لم تقم يوماً أبداً.
ولا شك أنّ إصرار أصحاب القرار في الولايات المتحدة على إغلاق أعينهم وصمّ آذانهم عمّا يجري فعلاً اليوم، وعن ردود الفعل المتفقة تماماً على توصيف الجرائم المرتكبة، لن ينصر سموم الصهيونية البائدة بل سيصيب الولايات المتحدة ذاتها والغرب برمّته بما أصاب قوم عادٍ وثمود.
هذا هو منطق التاريخ، وهذا هو مسار الحقّ والباطل الذي خبره كل بني البشر عبر قرون، ولن يكون هذا القرن استثناء، ولن تتمكن كل محاولات التضليل والزيف الإعلامي والسياسي من قلب الحق باطلاً والباطل حقاً، فويل للذين لا يعقلون. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب سينقلبون.
بثينة شعبان