لطف القحوم.. منظومة حربية متكاملة نضال حيدري بالبندقية والحنجرة.. للكاتبة عفاف محمد

لطف القحوم.. منظومة حربية متكاملة نضال حيدري بالبندقية والحنجرة.. للكاتبة عفاف محمد

من منا عاصر أحداث العدوان أو ما قبله بفترات بسيطة ولا يعرف من يكون هو "لطف القحوم "؟! لطف القحوم..

اسم حفر في الذاكرة وتخلد في الوجدان اليمني، لطف القحوم هو منشد ثوري ومجاهد صنديد، اشتهر في بداياته عند إنشاده زامل "ما نبالي ما نبالي"

 

كانت هذه الهامة الجهادية قد صنعت المجد وسطرته بأشكال متعددة، كانت البيئة قد صنعت منه مجاهدا مغوارا، لم يكن قد التحق بركب المسيرة الشريفة بإيعاز من أهل بيته او أحد أقاربه فلم يكن محيطه العائلي مشجع لهذه الفكرة، أختار لنفسه هذا الدرب لاعتقاده في نفسه بأنه الطريق الصواب.

كان التحاقه بالمسيرة الشريفة نابع من إدراكه للواقع وما يدور، نابع من إحساسه بالمسئولية تجاه دينه ووطنه، حيث وكان ممن لهم نظرة ثاقبة، ويجيدون موازنة الأمور.

ولنعرف عنه أكثر نطوف في ربوعه الخضراء

الاسم /لطف محمد زيد القحوم.. أب لأربعة اطفال "جبريل _ كميل -سلسبيل -ذو الفقار ".. استشهد في ربيعه الثامن والعشرين

ترتيبه الخامس بين إخوته...  شارك في الحروب الست وفي مجابهة العدوان الغشوم، استشهد بتاريخ 14 فبراير 2016 في جبهة مأرب /جبل هيلان

في مرحلة طفولته كان  "الشهيد " لطف طفل لماح شديد الذكاء ،له صلة كبيرة بالطبيعة ،يعشق صعود الجبال واللعب في السهول والوديان، كان كثيرا ما يدندن بصوته وهو في كل مكان كنوع من ممارسة هوايته المفضلة ، أتصف بالشجاعة منذ صغره، كان مقدام جسور لا يخاف في الله لومة لائم، ما دام يشعر بأنه الحق معه، قضى نشأته الأولى مع أهله في عمران حيث مسقط رأسه غولة عجيب "قلعة القحوم "وانتقلوا إلى صعدة وعمره أربع سنوات، شب على الخصال الحميدة والشيم اليعربية الأصيلة من غيرة و شهامة وإباءكن طبعه شديد منذ طفولته وعنيد وكان كثير المشاكل مع أقرانه ممن يثيرون غضبه وفي إحدى المرات حصل بينه وبين أولاد ممن يسموهم "بالعبيد" شجار وضرب عنيف وما كان منه إلا أن أسال منهم الدماء وهم كذلك حتى اسعفه اهله لترقيع جرح بليغ في الشفة العليا، كان معروف بإقدامه وشراسته تجاه ما يراه مستفز وغير صائب، قال عنه والده إنه كان يستيقظ مع خيوط أشعة الشمس الأولى ويخرج للجبال والوديان مستمتعا بمغامرات يخوضها ويعود منها منهك وقد اكتسب الكثير من الصلادة والقوة،

كان الشهيد لطف يهوى الرقصات الشعبية، كما يهوى الإنشاد وكل ما هو متأصل عريق من الموروث الشعبي وكان قد فتح أفق فسيح أمام الشعراء والمنشدين وكما ذكر الأديب والشاعر حسن المرتضى في إحدى دراساته قائلاً: تغاصن من شجرة الشهيدين الشاعر عبدالمحسن النمري والشهيد لطف القحوم آلاف من شعراء الزامل ومنهم من أسس مدارس جديدة فيه وآلاف من المزوملين والملحنين وصولا إلى ذروة الزامل اليمني وأسطورته عيسى الليث..

وفعلا كان الشهيد لطف قد أعاد للزامل حضوره وهيبته.

 وعن بداية انطلاقه في سبيل الله كان حينها في الصف الثاني الثانوي أيام الامتحانات النهائية ترك رقم جلوسه والتحق بركب المسيرة القرآنية وأرسله مع رسالة لوالدته قائلا فيها إنه قد باع نفسه من الله، كان أهله قبلها قد بحثوا عنه وبلغوا الجهات الأمنية عن اختفائه، انطلق في سبيل الله وعشق الدفاع عن المسيرة الشريفة، التي كانت محاربة من كل حدب وصوب، وبكل ما أتاه الله من قوى دافع عنها باستماته، خاض غمار المواجهة منذ التحاقه بالمسيرة الشريفة، كان قلبه قد تعلق بالجهاد تعلقا جماً، فارق على إثره الأهل والديار، هجرهم لأشهر عديدة تخللتها زيارات معدودة ،وفي إحدى المرات غاب عن أهله فترة تجاوزت السنتين، وفي إحدى مراحل حياته ذهب لوالدته وطلب منها مبلغ 50 الف ريال ليتزوج، وقال إن هذا ما سمى شرط العروس بقرار من  السيد سلام الله عليه لتخفيف تكاليف الزواج عند المجاهدين، وكان مهر عروسه التي اختارها من أسرة مجاهدة هو 50 ألفا وبندقا و"جعبه"، ذهب بعروسه إلى دار أهله وبعد ذلك  بمدة يسيرة انطلق للجبهة ، لم يفضل الراحة على الجهاد، أطلق العنان لنفسه وطاف الخبوت والفيافي والقفار، كان له في كل جبهة بصمة، باسل ببندقه بسالة الأبطال ،وكان يمتلك سلاح صوتي أرهب العدو، كونه حاز على ميزات عالية في طبقات صوته ذات الدقة وبليغة الأثر ،كانت الكلمات تنبثق من حنجرته بصدق عاطفي ممزوجة بحماسة وعنفوان يماني أصيل، وبذلك تغلغل لأعماق كل متلقي، وصوته كان يعد سلاح للمجاهدين يشعل فتيل حماسهم واتقادهم، فكم ترنموا بصوته وهو يزومل لهم فوق طقم، أو من على تبة، أو وهم وسط المتارس..

لم يغب حضوره الطاغي على الجبهات حتى اللحظة، فزوامله الحماسية والشعبية أصبحت حاجة ملحة في أنفس المجاهدين، لا يستغنون عنها كوقود محرك للهمم، لم يكن الشهيد لطف يوماً يعبأ بمباهج الحياة وكل ملذاتها، حيث حاول والده جاهداً ان يثنيه عن الجهاد قبل ان يهتدي بنور المسيرة الشريفة وأشترى له دشا كي يتابع القنوات ويعزف عن الذهاب لكن محاولته باءت بالفشل، وكذلك شرى له قاطرة كي يعمل عليها ولكن الشهيد لطف لم يأبه لها ولا للعمل من خلالها، كذلك أفاد والد الشهيد لطف بقوله كان ابني لا يهتم حتى بالتلفونات، كان كثير الضياع لتلفوناته، فلم يكن شعوره وإحساسه منخرط في غير الحياة الجهادية البعيدة عن التطور والتكنلوجيا الحديثة والأجهزة التي يحلم شباب هذا الجيل باقتنائها.

كان لطف القحوم من الاستبسال بحيث يواجه العدو في الصفوف الأولى في ساحات النزال، فلم يكن يوماً جبانا أو متخاذلا، أو ممن يمن بعطائه ويبحث عن وقت للراحة.

 كانت نفسه العصية الأبية تترجم الحمية والغيرة والشهامة والعز والشرف والإباء، وذلك من خلال جهاده المستميت وحرصه على أن ينتشر نور المسيرة القرآنية، ويعرف الناس الحق من الباطل.

عرف لطف القحوم من لم يعرفه في ساح الوغى من خلال زامله "مانبالي "والذي كان من كلمات شاعر المسيرة الشهيد عبدالمحسن النمري، من كانت أشعاره تنول من الأنفس المنال العظيم،

من بعد أن حدث العدوان الغاشم انتشرت أصداء صوت الشهيد وكانت زوامله مواكبة لكل حدث، عشقها الجمهور، وفيها تحدى العدو بشموخ كأسد كاسر وسخر منه ومن نكساته بشدة، وضخ من خلال زوامله كل معاني الإيمان والاعتزاز بالفروسية وبالصمود، وكان يرعب العدو بصوته حين يزأر به.

ترك هذا الشهيد مواقف جهادية مبهرة عظيمة، وخلف إرثا فنيا عظيم بصوته الجبلي الذي لازال صداه يتردد في أذهان المجاهدين ويعزز فيهم القيم الجهادية الراسخة..

كان قد تنقل في دروب الحياة عبر محطات جهادية، كثيرة وكان استعداده الفطري السليم هو ما يحركه للجهاد في سبيل الله بكل ما يملك، وبالرغم من إعفائه من الجهاد كون صوته يحدث اثراً عظيم وجلبة في محيط العدو، ويعد جبهة متكاملة، لكنه أبى إلا إن يسوح في جبهات الشرف، وفي رد له على سماحة السيد عبدالملك أصدر توجيه له بالبقاء في بيته، والاكتفاء بجهاده الفني العظيم، ومبرراً مواصلته درب الجهاد قال هذه الكلمات في أحد زوامله الشهيرة "الشهادة لي شرف والموت غاية. سيدي عبد الملك عفواً دمايا "...الخ هذه الكلمات التي نبعت من إحساس صادق والتي رفض فيها الاكتفاء بجهاده من خلال الجبهة الثقافية.

ومن أهم أعماله التي احتلت ملكات النفوس.. جينا على منهج القرآن-يا جند ربي _ أشري يا هذه الدنيا جوازي-حان اللقاء -الشهادة لي شرف -توكلنا على الله –يا شعب سجل الملحمة الكبرى -يحرم علينا العيش –يا جريح الحرب –يا مران -الصبر يا قلبي -دق التحالف –يا الله يا منان- أعظم كرامة للشهيد.. وغيرها الكثير التي واكب بها أحداث العدوان، وكان قبلها يؤدي أناشيد مختلفة في كل المناسبات، ويؤذن بصوته الشجي، ويتقن زفات الأعراس، ويسبح في ليالي رمضان.

 وكان له الفضل بإعادة حس الزامل الشعبي الذي كان قد غاب عن المجتمع اليمني بشكل كبير وأعاد له حضوره المجتمعي الطاغي.

تقول والدة الشهيد لطف عن شهيدها البطل: بانت أمارات وقدرات ابني الإنشادية منذ صغره حين كان ينشد بأعلى صوته معظم أوقاته وعندما كان في سن ابنه جبريل في سن العاشرة او الحادي عشرة، أنشد في عرس أحد الاقارب ولقى تشجيع من الجميع ثم أنشد في عرس أخيه وبعدها كان ينشد في كل عرس يذهبه حتى أحب الجميع صوته وكان يمارس الإنشاد من يومها والزوامل، وتضيف عن حياته الجهادية قائلة: أول ما التحق ابني بالمسيرة القرآنية لم نكن حينها نؤمن بمعتقداتها. كنت أخاف عليه وأسمع كلام الناس عندما يقولون لي لقد سحره الحوثي...!

وكنت أفتش جيوبه عساي أحصل على شيء يفيد بأنه مسحور بالحوثيين، ولكن مع مرور الوقت عرفنا المسيرة واعتقدنا بمفاهيمها، اهتدينا بهدى ابني سلام الله عليه، وتضيف قائلة:

 ابني تربى تربية صالحة، ولذلك صار إنسانا مؤمنا متقي الله ومجاهد في سبيله ،ولقد عانينا الكثير منذ التحاقه بالمسيرة القرآنية ، أيام الحروب الأولى وتعرضنا لضغوط  وقهر وظلم من جيش الحكومة آنذاك، وغاب عنا ابني لطف لشهور عديدة، وكنا نتعرض في البيت للهجوم مفاجئ في أوقات متأخرة من الليل للتفتيش عن ابني لطف ،ولم يضعوا حينها حرمة لمنزل فيه نساء وأطفال ،وتكرر ذلك كذا مرة، كما إن النظام الحاكم آنذاك حدد مبلغ مالي لمن يسلم ولدي  للسلطة، كان لطف  ممن جاهروا بالصرخة وطبعوا الشعار في كل مكان، جرح في الحرب السادسة بمعدل شيكي في قدمه وتم علاجه في الحمزات ،تنقل من العند إلى بني معاذ إلى المقاش ونقعة وأماكن عديدة، وشارك أيضاً في الحروب التي قامت بعد الحرب السادسة  مثل حرب كتاف وغيرها وكان له أدوار جهادية عظيمة ولم يهنأ او يستقر في حياته العائلية ،و لم يكن متواجد في ميلاد كل أبناءه عدا ذو الفقار ،ورحل بعد ميلاده بثلاثة أيام ،كان من أقرب رفقاء دربه إسماعيل حجر، وأصدقاؤه الدائمون عبدالله  حيدرة، وعبدالله الطالبي، وعلي حطبة.

وفي إحدى المرات كان هو ومجموعة من زملائه بعد الحروب الست في مواجهة مع جنود رموهم حينها بقنبلة يدوية مسكها الشهيد لطف بيده وانفجرت بيده وهو يريد إعادتها للعدو.

وكانت طبلتا أذنيه قد تمزقت إثر قذيفة دبابة أثناء مواجهة لبعض الفراد الجيش، كان فقط هو ورجل مسن، وكان هذا الرجل المسن والشهيد لطف يحتموا خلف الحجارة من ضرب الدبابة ويوجهونها بالبندق وبعد أن فقد السمع بسبب القذائف قال لهذا الرجل المسن والذي قد ضعف بصره:" أنت عليك تسمع بأذنيك وانا أرى بعيوني وكل واحد ينبه الآخر...!" -فأي عظمة نفسية يحملها هذا المغوار واي مواقف خالدة قد واجهها...! -

وتستطرد بالقول: كان ابني قبل العدوان ممن شاركوا في المسيرات والتظاهرات، وممن صدحوا بالحق، كان ضمن من اقتحموا الفرقة، وفي إحدى المظاهرات رشوهم بالغاز ولكنه مثل الأسد صعد للدبابة التي يتم الرش منها دون تردد وواجه من عليها.

تعرض الشهيد لطف القحوم لمحاولة اغتيال مرتين أحدها في صعدة من بعض أبناء القبائل، والمحاولة الأخرى في سوق القات بالجراف، وتم سجنه في قحزه يوم واحد،

كان قد سافر لثلاث دول في مراحل متباعدة للعلاج قبيل استشهاده وهي عمان والأردن وإيران.

وتضيف والدة الشهيد قائلة: كان ابني كثير الحديث عن الشهادة وفضلها، ويرجوها باستمرار، حتى نالها.

ويطول الحديث عن هذا الشهيد العظيم ومواقفه البطولية لا تعد ولا تحصى، وحسبه أنه سكن القلوب بأخلاقه وصوته ومواقفه والكلمات الملتهبة الحماسية التي كان يتفوه بها بثقة وإيمان وتتفجر براكين تحرق العدو.

 سعى الشهيد لطف جاهداً لنيل إحدى الحسنيين الموت أو الشهادة، وكانت زوجته عندما تنشده أن يبقى مع أولاده فترة أطول يرد عليها أنتِ مجاهدة وتعرفين فضل الجهاد والشهادة هل تريدين أن تحرميني الجنة؟!

كانت زوجته قد أخذت له صورة في آخر زيارة له بطلب منه وقال لها إذا استشهدت انشريها وإلا فلا، وكذلك زاملي أشري يا هذه الدنيا جوازي وكم مم محنك في جبل هيلان كان قد سجلها قبل ذهابه للجبهة وتم إخراجها للعلن بعد استشهاده.

ويتحدث والد الشهيد لطف عن استشهاد ابنه بقوله:

  قررنا أن نذهب انا وولدي لطف إلى جبهة صرواح وبينما كنا في طريقنا قلت له "انا لن اتركك سأذهب معك، فرد عليه: إبشر.. ومضينا في طريقنا حتى نزلنا من فوق الطقم وقام هو بالتحرك مع رفاقه نحو جبل هيلان في صعدة، فقررت اللحاق بهم وبينما كنت أمشي خلفهم، التفت إلى ابني الشهيد لطف وقال لي إلى أين ذاهب، قلت له معك هكذا اتفقنا، قال لي الشهيد: كيف نذهب الاثنين ومن يرعى الأولاد؟! وعدت مع الطقم الى صنعاء ومضى هو ورفاقه إلى جبل هيلان وماهي إلا أيام حتى تلقينا نبأ استشهاده والحمد لله الذي أصطفى ابني لطف شهيدا في سبيل الله والوطن.

 

أستشهد وفي جسده شظايا عديدة، وعندما تم علاجه في الأردن، تعجب الأطباء من كثر الشظايا التي غارت في جسده، وبعد استشهاده أستأذن الأطباء الأردنيين ان يستخدموا الأشعة التي تبين الشظايا، كي يدرسوا الطلاب على ضوئها، وقد أبدوا استغرابهم الشديد كيف إنه يستبسل في ميادين القتال وداخله كل تلك الشظايا!! وبالفعل كان يمتلك قوة جسدية عجيبة وقدرة على التحمل تفوق المعقول.

كانت زوجته قبيل استشهاده قد حلمت إنه عريس يُزف، وعندما علمت بخبر استشهاده قالت: الله يا سلمان يفقدك عقلك وأهلك مثلما أفقدتني أبو عيالي.

وفاز لطف القحوم بالشهادة التي ترسخت مفاهيمها في ذهنه، واحتلت كل خلجة فيه وسكنت فؤاده، فمنحه الله وسام إلهي يستحقه لأنه ممن كتب لهم العيش الدائم والرزق الغير منقطع. وصدق القائل جل علاه  *{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران-169).*