والحرية والاستقلال هي أول الإنجازات وأكبر المميزات لهذه الثورة الشعبية، وأكبر الأهداف أيضاً لهذه الثورة الشعبية؛ لأهمية هذه المسألة على مستوى شعوب الأرض بشكلٍ عام، يبرز هدف الحرية والاستقلال؛ باعتباره الهدف الأول لأي شعب، لأي بلد؛ لأنه بدون حريةٍ واستقلال، معناه: أن يعيش الشعب في حالةٍ من الاستعمار، والخنوع، والاستعباد، والإذلال، والقهر،
معناه: مصادرة القرار، معناه: مصادرة المستقبل، فشعبٌ لا حرية له ولا استقلال له يعني لا كرامة له ولا مستقبل له.
الشعب الذي يعيش خانعاً وخاضعاً ومستسلماً تحت سيطرة أعدائه السيئين، الظالمين، المجرمين، المتسلطين، إذا كان راضياً بذلك فهو رضي على نفسه بالغبن، فمعناه: أنه قد أصبح مفلساً من الشعور الإنساني الفطري بالتوق للحرية والكرامة، ومعناه: أنه رضي لنفسه بالدون والغبن والضعة، ورضي على نفسه بالذلة والهوان، ويخسر كل شيء، يتحول إلى شعبٍ مستعبد، وشعبنا اليمني هو شعبٌ حرٌ بفطرته الإنسانية وبهويته الإيمانية، وشعبٌ يعشق العزة والكرامة، ولذلك لا يمكن أبداً أن يقبل بمصادرة حريته واستقلاله.
إذا استذكرنا تلك المرحلة والظروف التي أتت فيها الثورة الشعبية، والتي تحقق من خلالها إنجاز الحادي والعشرين من سبتمبر كيف كانت، ندرك جيداً أنَّ المرحلة آنذاك وأن الوضع السائد في تلك المرحلة كان وصايةً وضاحة، واستعماراً وسيطرةً خارجية على هذا البلد، ونتج عنه نتائج خطيرة وحسَّاسة جدًّا في واقع هذا البلد.
الأمريكيون وضعوا أنظارهم على هذا البلد، حاله حال بقية بلدان وشعوب أمتنا الإسلامية، من واقع وبدافع عدائي واستعماري، وطمع، وهناك دوافع كثيرة تدفعهم- وهي بالتأكيد غير مشروعة- للتركيز على اليمن، في مقدمتها: الموقع الاستراتيجي الجغرافي لهذا البلد، والثروة الوطنية الهائلة، التي لا زالت موجودةً في باطن الأرض وفي ظاهرها لم تستثمر بعد، ولم يستفد منها هذا الشعب بعد، وكذلك التركيز على الإنسان اليمني فيما يمثله من أهمية؛ لأنهم يعرفون أنَّ هذا الشعب إذا كان في وضعيةٍ متحررة، فهو شعبٌ يملك المؤهلات لأن يكون له دور إيجابي وكبير بحساب هويته الإيمانية، ودوره التاريخي على مستوى واقع الأمة ككل، وأن يكون عضواً في الأمة الإسلامية فاعلاً ومميزاً، وذا دورٍ مهم، فهم يحسبون كل هذه الحسابات، وهم استراتيجيون في نظرتهم وتركيزهم، فركزوا على هذا البلد ضمن البلدان التي ركَّزوا عليها بشكلٍ رئيسي في استهدافهم للأمة الإسلامية في كل بلدانها وفي كل شعوبها، وتدخَّلوا في شؤون هذا البلد، واستفادوا من السياسات الخاطئة التي اعتمدت عليها السلطة في تلك المراحل، والتي اتجهت نحو التناغم معهم، والتماهي معهم، والتواطؤ معهم، والاسترضاء لهم، في مقابل الحفاظ على المناصب والمصالح الشخصية والفئوية، وأيضاً بحسابات خاطئة، إن كان أحدٌ آنذاك يتصور أنه يعتمد الأسلوب الصحيح، والسياسة الصحيحة في التعامل مع هذا التهديد وهذا الخطر، فهو أيضاً كان خاطئاً في ذلك، فتدخَّلوا في شؤون هذا البلد، ومن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر زادت تدخلاتهم بشكل كبير، صنفوا اليمن باعتباره من المناطق المستهدفة بالنسبة لهم تحت عنوان الإرهاب، وتحركوا بنشاط كبير، وتدخلات واسعة، وازدادت وتيرة هذه التدخلات لتدفع بالسلطة آنذاك إلى الدخول في حرب أهلية لاستهداف الأحرار من أبناء هذا الشعب في عددٍ من المناطق، ثم اتجه الأمريكيون للتدخل في كل شؤون هذا البلد بشكل كبير، فتدخلوا في كل المجالات: على المستوى السياسي، على المستوى الاقتصادي، على المستوى الفكري والثقافي والتعليمي، وكان تدخلاتهم في الملف الاقتصادي أيضاً تدخلات خطيرة، وأصبح السفير الأمريكي آنذاك يتدخل على المستوى الرسمي في كل المؤسسات والوزرات، فهو يتدخل في القضاء، ويلتقي بالجانب القضائي، ويتدخل بفرض سياسات وإملاءات وتوجهات، يتدخل في المؤسسة العسكرية، ويلتقي بالضباط والقادة العسكريين، ويعمل على صياغة برنامج معين- بالتأكيد- ينسجم مع السياسات الأمريكية، ويحقق الأهداف الأمريكية، ثم على مستوى الأجهزة الأمنية، ثم على مستوى المجال السياسي مع السلطة والأحزاب... وهكذا فتح السفير الأمريكي آنذاك برنامجاً في كل مجالات وشؤون هذا الشعب، من النوافذ الرسمية في كل مؤسسات الدولة ووزاراتها، ثم أكثر من ذلك: اتجه إلى الاختراق للحالة الشعبية، وبدأ بتنسيق علاقات مباشرة مع بعض الشخصيات الاجتماعية، وبعض المشائخ، وبعض الوجاهات، وحاول أن يعزز له ارتباطات مع بعض المناطق، وأصبح يتجه أيضاً إلى وجهة أخرى: هي المجتمع المدني؛ ليتغلغل من هذه النافذة، وعلى العموم لم يبق السفير الأمريكي آنذاك في صنعاء نافذة من النوافذ التي يتسلل من خلالها للتدخل في كل شؤون هذا الشعب إلا وتسلل منها ودخل منها، ويكفي مراجعة للأرشيف الإعلامي آنذاك، على مستوى القنوات الفضائية بما فيها الرسمية، والصحف آنذاك بما فيها الرسمية، وسيجد الإنسان كل الشواهد الدامغة التي تثبت هذا الكلام الذي قلناه، فأصبح يتدخل في كل شؤون هذا البلد بما يخدم السياسات الأمريكية الاستعمارية العدائية، لم يكن تدخله إيجابياً، ولا لمصلحة الشعب اليمني، ولم تكن النتائج التي تنتج عن تدخلاته وإملاءاته، والسياسات التي يفرضها، والأنشطة التي ينفذها، لم تكن نتائج إيجابية، ولم يكن لها أي ثمرة طيبة أو إيجابية في واقع هذا الشعب، وكنا نرى- بكل وضوح- كيف يتدهور الوضع في كل المجالات: على المستوى الأخلاقي والقيمي والمبدئي والثقافي والفكري، وعلى المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري، وعلى مستوى بنية الدولة التي كان ينخر فيها كالسوس، وكانت تتخلخل أكثر فأكثر حتى أوشكت على الانهيار التام، وبنظرة وتأمل واضح فالمسار الذي كان يدفع به الأمريكي من خلال سفيره يدفعه به الوضع في البلد هو مسار يتجه بهذا البلد نحو الانهيار التام وأوشك، وصل إلى حافة الهاوية، لولا هذه الثورة الشعبية التي تداركت الأمور، وفرملت عند حافة الهاوية، وأعادت الاعتبار لهذا الشعب.
السلطة آنذاك اتجهت اتجاهاً خاطئاً، وكثيرٌ من القوى السياسية اتجهت اتجاهاً خاطئاً نتيجةً للأطماع والمكاسب الشخصية والفئوية الضيقة المحسوبة بحساب المصلحة الشخصية أو المصلحة الحزبية، وأيضاً النظرة إلى أمريكا، والانبهار بأمريكا، والاستسلام أمام أمريكا، البعض كانوا يظنون أنه ليس بالإمكان الصمود في مواجهة الاستهداف الأمريكي، وأن الحل هو التماهي والتواطؤ مع الامريكي، والتناغم مع سياساته، أو التجند معه، وهو استغل هذا التوجه، وأولئك لم يكونوا يؤمنون بالشعب اليمني بقدر ما يمتلك من طاقات وقدرات وقيم ومبادئ تؤهله للصمود أمام هذا الاستهداف، والحفاظ على حريته واستقلاله وصون كرامته بالاعتماد على الله "سبحانه وتعالى"، وبالاستناد إلى تلك المبادئ والقيم والتاريخ المشرف، فغياب هذه النظرة إلى الشعب (النظرة الإيجابية والمبدئية والمهمة)، والدوافع التي أشرنا إليها من: خنوع لأمريكا وانبهار، وهزيمة نفسية، وأطماع ومكاسب حزبية، فئوية، شخصية...إلخ. ساهمت في أن ينجح السفير الأمريكي، والشواهد كثيرة، وكثيرٌ منها أيضاً يمكن أن يظهر في المستقبل أكثر فأكثر. اتجهوا بالبلد نحو الانهيار، حرصوا على أن ينزعوا من هذا البلد كل عناصر القوة، وكل المقومات على المستوى الاخلاقي والمبدئي والفكري والثقافي، تدخلوا في السياسة التعليمية تدخلاً خطيراً جدًّا، يقوض المبادئ الأساسية التي تجعل هذا الشعب متماسكاً وصامداً تجاه التدخل الخارجي، وحساساً تجاه المصادرة للحرية والاستقلال، وأصبحت السياسة التعليمية تدجينية، تدجِّن أبناء هذا الشعب، وأيضاً السياسة الإعلامية أصبحت تدجينية، إضافةً إلى تغذية كل عوامل الانقسام الداخلي، كانت هذه سياسة رئيسية، ركَّز عليها الأمريكيون وعملاؤهم والمتناغمون معهم، والمستجيبون لهم من أبناء هذا البلد من القوى السياسية والسلطة آنذاك، فبرزت إلى حدٍ كبير إثارة النعرات العنصرية والطائفية، والحساسيات المناطقية، وبعمل نشط وتعبوي بشكلٍ عجيب ولافت وغير طبيعي أبداً، وبالجملة كلما يمكن أن يمهد للسيطرة الأمريكية الكاملة والمباشرة وينزع عن هذا الشعب وهذا البلد كل عناصر القوة والتماسك كانوا يشتغلون عليه، والتفاصيل كثيرة تحت هذا العنوان، كثيرة جدًّا، وما من مجال من المجالات إلا واشتغلوا على هذه القاعدة، وبما يخدم هذا التوجه.
كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في الذكرى السادسة لثورة الحادي والعشرين من سبتمبر 21-09-2020