{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}، نحن كبشر بحاجةٍ إلى الله -سبحانه وتعالى- في كل شيء، قد يتبادر إلى أذهان الكثير من الناس عندما يسمعون مثل هذه الآية المباركة: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}، الجانب المادي، حاجتنا من الله -سبحانه وتعالى- إلى الرزق، حاجتنا منه أيضاً إلى العافية، حاجتنا منه إلى ما يمنُّ به علينا من متطلبات هذه الحياة المادية ونحوها
لكننا بحاجة مع كل ذلك إلى الله -سبحانه وتعالى- في جانبٍ مهمٍ جدًّا يتصل بحياتنا، نحن بحاجة إلى هداية الله -سبحانه وتعالى- وهذه الحاجة هي من أهم الإحتياجات الضرورية لنا في هذه الحياة، بحيث أنَّا إذا لم نرتبط بالله -سبحانه وتعالى- وإذا لم نعد إلى الله -سبحانه وتعالى- في هذا الجانب؛ نتأثر سلباً في بقية الجوانب، ولا نرتاح ببقية المجالات والجوانب.
الإنسان لا يمكن أن يستغني عن الله -سبحانه وتعالى- في جانب هدايته؛ لأن الإنسان في هذه الحياة في ظروف حياته، وفيما هيَّأ الله له، وما هيَّأه عليه، هو في ميدان مسؤولية، الله مكننا من العمل في الاتجاهين: في الخير وفي الشر، فيما هو لصالحنا، وفيما هو ضرٌ علينا، فيما فيه الخير لنا، وفيما عواقبه علينا سيئة وخطيرة جدًّا، ولذلك إذا انطلقنا في واقع هذه الحياة وفي مسيرة هذه الحياة بدون هدايةٍ من الله -سبحانه وتعالى- يمكن أن تكون أعمالنا في هذه الحياة، وتصرفاتنا في هذه الحياة، وأعمالنا وسلوكياتنا في هذه الحياة بالشكل الذي ينتج عنها العواقب الخطيرة علينا، والسيئة علينا، يمكن أن نضيع في هذه الحياة فيما نعمله، وفيما يترتب على ما نعمله من نتائج، هذا في الدنيا، وإضافةً إلى ذلك، وهو الأمر الكبير والأمر الخطير جدًّا: أنَّ بعد هذه الدنيا آخرة، وهناك سنلقى الجزاء على كل ما عملنا من خيرٍ أو شرٍ في هذه الدنيا، حتى بمثقال الذرة من الخير، وبمثقال الذرة من الشر، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7-8]، فالمسألة خطيرة جدًّا، ما دمنا في حياتنا هذه في موقع المسؤولية أمام الله -سبحانه وتعالى- وتصرفاتنا وأعمالنا مهمة فيما يترتب عليها من نتائج تلحق بنا، أو تكون لنا في الدنيا وفي الآخرة، فنحن بحاجة إلى هدايةٍ من الله -سبحانه وتعالى- هدايةٍ تساعدنا أن نسير في مسيرة حياتنا هذه فيما فيه الخير لنا بالفعل، وليس بالوهم، الإنسان قد يتوهم وما أكثر ما يندفع فيه الناس، وما يتوجهون إليه، وما يحرصون عليه من أعمال واهتمامات في هذه الحياة بدافع الخير، ويتوهمون فيها الخير، ولكنها تمثِّل شراً عليهم.
إذا تأملنا في الظروف التي يعيشها البشر في زماننا هذا، ونتطلع إلى الواقع العالمي من حولنا، فنجد أبرز القوى على هذه الأرض من المجتمعات البشرية، التي هي اليوم تمتلك الإمكانات الكبيرة والهائلة، والتي هي تسعى من خلال نفوذها وإمكاناتها للتأثير في واقع المجتمعات البشرية الأخرى، نجد اليوم مثلاً: أمريكا، على سبيل المثال: أمريكا، ثم مع أمريكا الموالين لأمريكا، سواءً من شعوب ومجتمعات البشر غير المنتمية إلى الإسلام، أو حتى من المسلمين، من المنتسبين للإسلام، ممن هم موالون لأمريكا، كل هؤلاء بإمكاناتهم، وبكل ما يمتلكونه أيضاً من رؤى وأفكار وسياسات وتوجهات، وما يسعون أيضاً إلى فرضه على بقية الشعوب، وعلى بقية الناس، وعلى بقية المجتمعات، هم بأنفسهم لا يمتلكون ما يحقق للبشرية الخير بالفعل في واقعها، فنحن نرى بكل وضوح أنَّ المشاكل في المجتمعات البشرية بكلها تكبر وتكثر، ونحن نرى أنَّ الأزمات بكل أشكالها: على المستوى الاقتصادي، على المستوى السياسي... على كل المستويات وفي كل المجالات تتفاقم وتعظم يوماً بعد يوم، ونحن نرى أولئك الذين يريدون فرض هيمنتهم، وثقافتهم، وتوجهاتهم، وأفكارهم، وسياساتهم، ونفوذهم، وسيطرتهم علينا بشكلٍ عام كمجتمعاتٍ بشرية، نرى كيف أنهم بكل وضوح جزءٌ واضحٌ من المشكلة، وكيف أنهم- وبكل تأكيد- لم يتمكنوا من حلِّ الكثير من المشاكل الكبيرة حتى في واقع حياتهم وفي داخل شعوبهم ومجتمعاتهم، فهم جزءٌ واضحٌ من هذه المشكلة، ولا يمتلكون أي مشروع ينقذ هذا الإنسان، ويصلح حياة هذا الإنسان، ويحقق الخير للإنسان، وهذه من أهم المسائل التي يجب أن نعيها.
عادةً في كثيرٍ من الحالات في الخطاب الديني عند كثيرٍ من المرشدين، وعند كثيرٍ من الخطباء، وعند كثيرٍ من العلماء، وعند كثيرٍ من المتعلِّمين، لا يتم التركيز على القضايا الرئيسية التي لها تأثيرها بشكلٍ عام على واقع الناس، على توجهات الناس، على أفكار الناس، اليوم نرى المحسوبين على أمتنا الإسلامية من المسلمين الموالين لأمريكا الذين تورَّطوا في هذا الجرم الذي هو بحكم القرآن الكريم نفاق، وهم يتحركون وفق التوجهات الأمريكية، حتى عندما يقدِّمون شيئاً من العناوين الدينية، وعندما يمارسون بعضاً من الطقوس الدينية، هم يحرصون على ألَّا تكون على النحو الذي يؤثِّر على التوجهات والسياسات الأمريكية في العالم، وهذا واضحٌ بالنسبة لهم؛ لأن الأولوية والاهتمامات الرئيسية عندهم هي خدمة أمريكا، والتوافق مع أمريكا، والطاعة لأمريكا، والانسجام مع إسرائيل، فإذا قدَّموا عناوين دينية، وإذا مارسوا بعضاً من الطقوس الدينية، فهم يجعلونها عديمة الجدوى، وعديمة الأثر، ولا يربطونها بالأمور المهمة والأساسية، بحيث تتحقَّق منها النتائج التي هي من أجلها، والغايات التي جعلت لها.
هنا نؤكِّد على أهمية هذه المسألة: أننا بحاجة إلى العودة إلى الله -سبحانه وتعالى- العودة إلى الله عودةً عمليةً، وعودةً صحيحةً؛ لنهتدي بهداه، هو من يملك فيما يقدمه لنا ما يحقق لنا الخير، ثم مع ذلك هو من يتدخل مع ما يهدينا إليه برحمته بفضله بكرمه، عندما نعود إلى الله -سبحانه وتعالى- لا نحصل فقط على الهداية الإرشادية والتوجيهات القيِّمة التي هي إيجابية فحسب، بل مع ذلك نحصل معها على معونةٍ من الله، على رحمةٍ من الله، على فضلٍ من الله، على رعايةٍ واسعةٍ من الله -سبحانه وتعالى- فهو إلى جانب ما يهدينا إليه، هو يعين، هو يهيِّئ، هو يسخِّر، هو يعز، هو ينصر، هو يؤيِّد، هو يوفِّق، هو يرزق... وهكذا رعاية واسعة ورعاية شاملة، هو ينزِّل البركات، هو يدفع الضر، هو يدفع الكرب، هو يدفع الشر، هو يعين في كل الأمور.
وعندما نعود إلى القرآن الكريم لنعرف على وجه الإجمال ما الذي نفتقر إليه كبشر كناس؟ وما الذي يفتقر إليه الإنسان منا على المستوى الفردي، ثم المجتمع على مستوى واسع، لصلاح حياتنا، لصلاح واقعنا، ولنؤمِّن مستقبلنا عند الله -سبحانه وتعالى- في الآخرة، صلاح هذا الإنسان هو المحور الأساس الذي يترتب عليه صلاح هذه الحياة، فصلاح حياتنا وأن نعيش الحياة الطيبة، وأن تتحقق لنا النتائج المرجوة، وأن نكون من المفلحين، وأن نحقق الخير لأنفسنا في الدنيا وفي الآخرة، كل هذا يتعلق بصلاحنا نحن، كيف نصلح، وصلاح الإنسان يتوقف على جانبين أساسيين ومهمين جدًّا، هما: التربية و (التزكية)، والهداية، الإنسان بحاجة إلى التزكية لنفسه، كيف تزكو هذه النفس، كيف تنمو فيها مشاعر الخير، والمحبة للقيم والأخلاق الفاضلة، كيف تتوجه هذه النفس التوجه الخيِّر في هذه الحياة، التوجه الصالح في هذه الحياة، كيف يتغلب الإنسان في نفسه على كل نوازع أو نزغات الشر، ودوافع الفساد والمنكر والباطل، كيف نسيطر على هذه النفس البشرية، ونكبح جماحها، ونضبط غرائزها، فلا تتجه إلى اتجاه الشر والفساد والمنكر، الذي له آثاره السيئة على الإنسان في حياته بلا شك في الدنيا وفي الآخرة.
المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 24-04-2020