نجد الله سبحانه وتعالى يدعونا في نفس الوقت إلى الإنابة إليه ويفتح لنا الباب، باب التوبة، باب الرحمة، باب المغفرة، لنُنيب إليه، لنرجع إليه، ويقول جل شأنه في كتابه الكريم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه} [الزمر - 53]، يوجّه هذا النداء بكل رحمة وبكل رأفة، نداء رقيقا جدا، نداء رحمة، قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لأن الإنسان بالمعاصي هو يسرف على نفسه، يتجاوز الحد وهو يظلم نفسه، وهو يسبب لنفسه الشقاء في الدنيا، والعذاب في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة،
فهو ينادي هذا النداء، {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}[الزمر – 53 + 54]، فهو ينادي كل عباده الذين أسرفوا على أنفسهم، وما من إنسان إلا وهو مسرف على نفسه، تتفاوت المستويات في هذا الإسراف، تتفاوت من إنسان إلى آخر، من مجتمع إلى مجتمع، طبيعة ومستوى الالتزام الديني والأخلاقي بتوجيهات الله وتعليماته سبحانه وتعالى، والإنسان بحاجة إلى أن يغتنم فرصة هذا النداء، الله يفتح باب التوبة ويدعو إليه وفي نفس الوقت يعد بالمغفرة على كل الذنوب ويحذّر من اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى، لأن اليأس والقنوط قد يدفع البعض إلى الاستمرار في المعاصي والذنوب، وقد يمثل صدا لهم وعائقا لهم، عن الإقبال إلى الله وعن التوبة، يظن أنه لا فائدة من التوبة، وأن الله لن يتوب عليه ولن يغفر له، والله سبحانه وتعالى يحذر من هذا اليأس وهذا القنوط ويدعو إلى المبادرة وإلى الإسراع في التوبة والإنابة والله وعد بالمغفرة {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر – 53 + 54]، المطلوب هو الإنابة إلى الله والرجوع الصادق نفسيا، يتخذ الإنسان قرارا بالعودة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى وعمليا، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر - 54]، قبل العذاب ما الذي تنتظر؟ لا بد من العذاب على الذنب إن لم تتب، لا يدفع عنك العذاب إلا التوبة، أما الإصرار على الذنوب، الإصرار على المعاصي، الذنوب ما كان منها بشكل تعدي لحدود الله وارتكاب جرائم، وما كان منها تقصير وتفريط في الواجبات والطاعات التي أمرنا الله بها وأرشدنا إليها والمسؤوليات التي حملنا إياها، كلا هذين الجانبين من الذنوب علينا أن نبادر بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى والإنابة إليه قبل العذاب، قبل العذاب، لا بد من العذاب إن لم يُنب الإنسان ولم يتب، ولا أحد يمكن أن ينصره ولا أن يدفع عنه أبدا، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر - 55]، ، أن يبادر الإنسان قبل أن يأتي العذاب بغتة، في الوقت غير المتوقع، وفي الحال غير المتوقع، الإنسان غافل، نداءٌ آخر يوجهه الله سبحانه وتعالى إلى عباده الذين آمنوا، وهو نداءٌ عظيم ونداءٌ مهم جدا، يقول جل شأنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [التحريم - 8]، لأن البعض يتصور أن الانتساب والانتماء الإيماني أصبح بطاقة ترخيص، يكفي أن يقول لا إله إلى الله محمد رسول الله ثم يفعل ما يشاء ويريد من المعاصي والذنوب ويدخل الجنة، لا، هذه فكرة غير صحيحة إطلاقا، الدين هو جاء لتزكية النفوس ولإصلاح الإنسان ولإصلاح أعمال الإنسان، والجنة والنار هي جزاء على العمل، على العمل، وفي الدنيا والآخرة جزاء على العمل، والله يقول {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة - 7]، لكن الله فتح باب التوبة، توبة إليه، هنا يوجه نداءه إلى الذين آمنوا أن عليهم أن يبادروا بالتوبة إلى الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم - 8]، المطلوب من الجميع أن يتوبوا إلى الله، كل إنسان هو مقصر، كل إنسان هو مذنب، كل إنسان يصدر من جانبه أخطاء ويقصر في أشياء ولكن يتلافى ذلك بماذا؟ بالتوبة إلى الله، بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى رجوعاً بالندم، رجوعا بالندم على التقصير وبالندم على المعصية وبالندم على الذنب وبالإقلاع عن الذنوب وبالعزم على تركها، وعلى عدم العودة إليها، وهكذا حالة يستمر الإنسان عليها، وبتوجه جاد وصادق، {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}، هذه التوبة الجادة التي هي توبة كاملة وخالصة، خالصة، الإنسان توجه بكل صدق إلى الله سبحانه وتعالى وبكل جد، نادما على معصيته، على ذنوبه على تقصيره، ليس راضيا بذنوبه، ليس راضيا عن أخطائه، ليس راضيا عن تقصيره، بل يندم ويدرك أنه قصّر في جنب الله سبحانه وتعالى وأساء إلى ربه العظيم الكريم المنعم، الخالق، وجلب على نفسه بذلك الشر والخطر، وأنه بحاجة أن يدفع عن نفسه، فتكون توبة جادة صادقة كاملة، لا يبقى الإنسان مترددا، أو يبقى عازما في نفسه إلى العودة إلى الذنب ويتصور أن المسألة مسألة استغفار مؤقت ثم يعود إلى الذنب أو لا يتخلص من آثار ذلك الذنب، من المظالم إن كانت مظالم لعباد الله أو نحواً من ذلك، فالمطلوب أن تكون هذه التوبة جادة وصادقة وتوجه جاد للإقلاع عن المعصية وعن الذنب وعن التقصير، {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم - 8]، لتنال المغفرة تب إلى الله، لتنال المغفرة، لتنال التكفير لسيئاتك، ليدفع الله عنك الخزي والفضيحة يوم القيامة، لا تكن ممن يفتضحون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، لتكون في موكب النور مع نبي الله ورسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" ومن معه من المؤمنين التائبين المنيبين الصادقين الذين يمنحهم الله في ذلك اليوم هذا الشرف وهذا التكريم وهم يتحركون في موكبهم، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، هذا الشرف الكبير، لتحظى بهذا الشرف ولتنال هذا الشرف لا تكون مع المفضوحين، لا تأتي يوم القيامة وصحيفة أعمالك مليئة بالفضائح والمخازي، نعوذ بالله ونستجير بالله، ولتحظى بهذا الشرف، تكون مستورا بستر الله وبمغفرته وبتكفير السيئات منه، هذه دعوة يفترض أن الإنسان يحرص على الاستجابة لها، لا يبقى الإنسان مصرا على المعصية.
المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي