عبد العزيز البغدادي
بعض الأعزاء من أعضاء ما يسمى هيئة مكافحة الفساد قرأوا ما كتبته في يوميات سابقة عن عدم الحاجة لوجود الهيئة من الأساس قراءة سلبية أي قراءة من له مصلحة خاصة آنية يخشى ضياعها غير مبال بما يلحق بالمصلحة العامة وما يلحقها من ضرر من خلال ما يصنعه وجود هذه الهيئة من وهم بأنها بالفعل تكافح الفساد !، والأذكياء منهم يدركون بأن المصلحة العامة تشمل مصالحهم ولكنهم يتعامون، وقلة منهم من كانت قراءتهم لما كتبت إيجابية ، وهذا أمر طبيعي جداً بل إن الأمر غير الطبيعي أن لا يكون ما تطرحه أو تكتبه محل خلاف ، أقصد الخلاف بمعناه الإيجابي أي اختلاف الرحمة المعبّر عن وجود الحياة واستمرارها لا خلاف أو بالأصح اختلاف التنازع والتعصب الأعمى الذي تطغى عليه العصبيات بكل صورها والمنافع الشخصية الأنانية المتوحشة وغير المشروعة والبون شائع بينهما ، وأزعم أن موقفي هذا كان ومازال ثابتا ولو بشكل نسبي أي من حيث المبدأ الذي يرتكز عليه منذ ولدَت هذه الهيئة وهو أن الفساد لم يكن مشروعاً قبل ذلك بل إن نسبته قد ارتفعت بعد ميلادها ، ومن لديه رأي آخر عليه أن يبديه ، هذا الرأي والموقف عبّرت عنه أكثر من مرة سواء بالكتابة أو في حلقات نقاش أو ندوات شاركت فيها ، وقد قلته للإخوة الذين حاولوا بمحبة دفعي للترشح في آخر تشكيلة للهيئة وأذكر منهم الأخ العزيز المرحوم / الأستاذ أحمد عبدالملك حميد الدين الذي نشط في آخر أيامه في أعمال الهيئة نشاط المودع ومع ذلك فقد قال لي قبل رحيله بأيام : (لقد كنت على حق يا صديقي ) رحمة الله تغشاه ، وكذلك الأخ والصديق العزيز/ الأستاذ سليم السياني، وقد اعتذرت لهم جميعاً مؤكداً لهم أن من العيب عليَّ أن أترشح لعمل أرى أنه غير ضروري وبيّنت لهم بعض الأسباب منها تمسكي بالمبدأ الجوهري الذي ذكرت ، كما أن مآل عمل الهيئة ومنتهاه إلى القضاء ، وفي اعتقادي أن القضاء من النيابة إلى المحاكم إلى هيئة أو هيئات التفتيش القضائي ومجلس القضاء وكل ما له علاقة بالعدالة القضائية ووزارة الداخلية وأجهزة الضبط القضائي وكل هذه المفردات تشكل بالمجمل هيئة مكافحة الفساد الحقيقية ، أما هيئة مكافحة الفساد الرسمية هذه فإنها أشبه بالزائدة الدودية ، بل إن الزائدة الدودية لها وظيفة مهمة قبل أن تتكاثر فيها السموم ويصبح وجودها خطرا على حياة الإنسان ، ولا يعد وجودها سوى تكريس لتقاسم الفساد بين القوى والفعاليات السياسية الممثلة في الهيئة يشرف على هذا التقاسم من يديرها من السلطات العليا والتنفيذية ممن يمكنهم التلاعب بتقاريرها فتذهب جهود الجادين من أعضائها في التحقيق والنقاش والتقارير التي قد تكون بعضها جادة بل هي بالتأكيد كذلك ، ولكن ما جدوى كل ذلك إذا كانت هناك سلطة أعلى تلعب دور الموجّه لأعمال الهيئة ولو بصورة غير مباشرة والمنقّي للتقارير التي تصدر عنها فهذا يتم إرسال ملفه للقضاء وآخر لا داعي لأنه يتعلق بأشخاص لهم مكانة خاصة وواجب الشراكة والسياسة وركوب الخيل توجب إعمال مقتضيات السياسة الخبيثة التي تحافظ على كل مظاهر الفساد بل وتبدع ما يدمع العين دماً من فنونه، وهكذا تتحول عملية مكافحة الفساد إلى عمل سياسي يعتمد على مفهوم لا يفرق بين السياسة والخساسة وهذه هي جوهر المشكلة التي تحكم قبضتها بالقانون وبالقضاء بل وتطوع الدين أيضاً في ظروف يختلط فيها الدين بالسياسة فلا نجد لأيهما طريقاً إلى الصلاح والإصلاح الحقيقي وهذه محنة كبيرة تقع الأمة بكاملها في عمقها.
نعم أكرر أن هيئة مكافحة الفساد من الهيئات الزائدة وهي كثيرة وقصة هذه الهيئات طويلة ومتشعبة يمكن حصرها إن وجدت جدية في مراجعة وإصلاح هيكلية سلطات الدولة ، ولكني هنا أتحدث عن هيئة مكافحة الفساد التي تبدو وظيفتها الفعلية كما هو واضح ذر الرماد في العيون وإلهاء الناس بالحديث عن الفساد أو أنها وفق هذه الحيثيات وواقع الحال تلعب دور المخدّر المؤدي إلى الإدمان وينتج عنه إهدار الحقوق وإعاقة أجهزة العدالة والأجهزة ذات الصلة عن أداء دورها ، فإذا كان هناك رغبة حقيقية وصادقة في مكافحة الفساد فإن الطريق إلى ذلك تبدأ بإصلاح القضاء إصلاحاً حقيقياً ثم تمكينه من أداء واجبه ودعم استقلاله وعدم التلاعب به لتحقيق أهداف سياسية من أي طرف سياسي أو استخدامه لتحقيق مصالح الفاسدين مالياً وإدارياً وسياسياً ، فهل توجد سلطة سياسية تتسامى على مصالحها الخاصة فتبدأ بإفساح المجال لإصلاح القضاء إصلاحاً حقيقياً وتمكينه من الاستقلال التام ليكون ملاذاً لكل ذي مظلمة أو صاحب حق وبذلك يصبح القضاء بالفعل حارساً يحمي حياة الناس وأموالهم وأعراضهم سواء كانوا في المعارضة أو في السلطة وسداً منيعاً أمام تحويله إلى مدخل لتصفية الحسابات بكل أشكالها وفي كل محطة سياسية جديدة ، فالعدل واحترام مبدأ سيادة القانون هو طريق التقوى الدينية والسياسية والأخلاقية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) وهذا هو بداية الطريق دون حاجة لهيئات عليا أو سفلى!.
أي وجه للعدالة يصنعه الحاكم المستبد
حين تصبح إحدى عطاياه
وتجثو على ركبتيها له خاشعة.