علي الدرواني
ليس من المناسب أن تكونَ بدايةُ الحديث عن الزلزال المدمّـر الذي ضرب سوريا وتركيا إلَّا بالتعزيةِ وكامل التضامن وإعلان الموقف الإنساني الخالص مع شعبي البلدين، والترحم على الشهداء والدعوة إلى الله بالشفاء للجرحى، والخلاص للمحاصرين تحت الأنقاض.
لقد كان فعلاً كما وصفته المراكِزُ المتخصِّصة زلزالاً مدمِّـراً، تجلت آثارُه بعشرات الآلاف من البنايات المهدمة، والآلاف من الضحايا في البلدين، وهو إن كان كذلك، فَـإنَّه أَيْـضاً لم يكن مُجَـرّدَ زلزال جيولوجي فقط، بل صاحبه زلزال أخلاقي إنساني، دمّـر الأبراج العاجية التي يعيشها المجتمع الدولي محيطاً نفسه بشعارات الإنسانية الزائفة، وكشف عورة أكثر الأنظمة العربية، لكن هذا الزلزال لم يتمكّن من تدمير قانون قيصر، ولا حجب الغطرسة الأمريكية.
بالأمس كان واضحًا سيلُ التضامن مع تركيا، والخجل في التعاطي مع سوريا، إن كانت الأولى تستحق هذا التضامن في وقت لا مكان فيه إلَّا لمزيد من الإنسانية، فلماذا تغيب الثانية، ما هو التفسير المنطقي، لماذا لم تتمكّن الإنسانية من تجاوز عقبات السياسة والخلافات الشخصية؟، ألم تكفِ عشر سنوات من الدمار الذي حَـلّ بسوريا وشعبها، أم أن أعداء سوريا يرون اليوم في هذا الزلزال مدخلاً جديدًا للمساومة، والبحث عن تنازلات يقدمها النظام السوري تحت ضغط الكارثة؟!
ما حزّ في النفس بالأمس أثناء المتابعة، أن الجهودَ العربيةَ بدت خَجولةً أمام حجم الكارثة والمصاب الذي يعاني منه الشعبُ السوري، في تلك اللحظات اختارت القنواتُ السعوديّة عناوينَ خبيثةً للتغطية لا دخل لها بالإنسانية لا من قريب ولا من بعيد، بل كانت أشبه بالتشفي، واستجداء تركيع النظام السوري، والتساؤلات الخبيثة، على سبيل المثال لا الحصر: (هل يُريد النظام السوري أن يأخذ أوامرَ من إيران وَروسيا في طلب المُساعدات الدولية؟ ولماذا لم يلجأ للدول العربية؟) هكذا قالت قناة الحدث، متجاهلةً أن نداءاتِ الاستغاثة ومناشدة المجتمع الدولي بتقديم المساعدة للشعب السوري كانت على الملإ، وقالت وزارة الخارجية والمغتربين في بيان نقلته القناة نفسها: “تناشد سوريا الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة والأمانة العامة للمنظمة ووكالاتها وصناديقها المختصة واللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من شركاء العمل الإنساني من منظمات دولية حكومية وغير حكومية، لمدّ يد العون ودعم الجهود التي تبذلها الحكومة السورية في مواجهة كارثة الزلزال المدمّـر”.
مثلُ تلك التساؤلات ليست بريئةً، فهي تحاولُ أن تُخفِيَ الحاجةَ السعوديّة للإذن الأمريكي بتجاوز قوانين قيصر، التي تخنق بها الشعب السوري، وتمنع وصول المساعدات، بل حتى تمنع الحصول على الحق الطبيعي في التبادل التجاري مع بقية دول العالم، وهو ما يلقي بظِلاله الكارثية ويعمق طبيعة المأساة.
الأنكى والأمرُّ هو السربُ الذي غردت فيه قنواتٌ خليجية، بادِّعاء طلب دمشق دعماً إسرائيلياً، واستجابة المجرم “نتن ياهو” للطلب وهو ما تم نفيه بشكل مطلق، وقد كان واضحًا على تلك القنوات أنها لا تنقل الخبر لمُجَـرّد النقل، بل لأهداف لها علاقة بالشماتة من النظام السوري، من جهة، وتجميل صورة العدوّ الإسرائيلي من جهة أُخرى، وهو سقوط أخلاقي وإنساني في استغلال مأساة وكارثة في خدمة أهداف حقيرة.
رغم أن هولَ الزلزال وما تنقله كاميراتُ الإعلام يبدو كافياً لتتحَرّك المشاعر العربية والقومية والإسلامية لدى هؤلاء، إلَّا أنها اختارت أن تنفضح، وتنكشف، وتبدو على حقيقتها، بوجه أكثر قبحاً، وقتامة، تذكر بشعارات الحضن العربي التي سمعناها مع بداية العدوان على اليمن، وتشكيل السعوديّة تحالفاً طويلاً عريضاً تحت عنوان (إنقاذ الشرعية في اليمن) سخرت مِن أجلِه الأموال والمليارات وحركت مجلس الأمن لاستصدار قرارات، وشراء الولاءات، والأسلحة والأصوات الإعلامية في العالم، وأرسلت قرابةَ مِئتي طائرة إف16، محمَّلةً بأحدث الأسلحة الذكية والغبية، واستمرت على مدى ثمانية أعوام، تقتل وتدمّـر، لم تحصد إلَّا المزيدَ من الدماء والأرواح والدمار، وصنعت مأساة وصفتها الأمم المتحدة بالأسوأ في العالم من صنع البشر.. فليتها اليوم تفتح (حُضنَها العربي) وترسل عُشر تلك الطائرات محمَّلةً بالإغاثة ووسائل الإنقاذ، ولو لثمانية أسابيع، بل لثمانية أَيَّـام، مقابل ثماني سنوات في اليمن.
سقط الأعراب هنا، وسقط المجتمعُ الدولي، وكان الأكثر سقوطاً هو الولايات المتحدة، التي لا تزال تتمسَّكُ بقانون قيصر، مع ادِّعاءات فارغةٍ بالنظر إلى الفاجعة بمنظار إنساني، منظارٍ لم تستطع معه دولٌ أُورُوبية عن التلفُّظِ ولو كلامياً فقط، عن الاستعداد لمساعدة الشعب السوري، سواء في مناطق النظام، أَو مناطق المعارضة المدعومة تركياً وغربياً. لن يسجل الزلزالُ الآلافَ من الضحايا من السوريين والأتراك فسحب، بل ها هو يسجِّلُ ضحايا من الضمائر الممزَّقة؛ بفعل التوحُّش الإنساني الذي يعيشُه العالَمُ اليوم، رغمَ ارتفاع منسوب التصريحات والشعارات البرّاقة والتغنّي بالإنسانية وحقوق البشر وحتى الحيوانات أَيْـضاً، لتبدو اليومَ مُجَـرَّدَ سرابٍ بقيعةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءً.