كيف تسربت ثورة 26 سبتمبر من أيدي الثوار لتقع ضحية للثأريين.. الذين حولوا ذكرى ثورة سبتمبر إلى مناسبة موسمية لشتيمة كل هاشمي أَو زيدي، السلالة، التاريخ والتراث والرموز، وخلق مناخات نفسية وأيديولوجية مشحونة بالعواطف الثأرية والعصبوية..
"عبدالملك العجري" عضو المكتب السياسي لأنصارالله والوفد المفاوض:
أحد أهم مآزق ثورة 26 سبتمبر غلبة خطاب الثأر فيها على خطاب الثورة وتغلب الثأريين على الثوريين. عقيب إعلان الثورة عن أهدافها الستة كان الثوريون والجمهوريون أقليةً في معسكر الجمهورية، والثأريون هم السواد الأعظم وبسرعة دراماتيكية تنفلت من أيدي الثوار لتقع ضحية للثأريين الذين قُدِّرَ لهم أن يقرّروا مصيرَ الثورة والجمهورية والدولة.
الثأريةُ تخالِطُ معظمَ التحولات الثورية السياسية والاجتماعية، لكن عندما تغلب السياسة والعقلية الثأريتان عليها تتحول الثورة -كما حصل في ثورة 26 سبتمبر- من مشروع مدني تحديثي مخطّط؛ بهَدفِ إحداثِ تحوُّلٍ سياسي واجتماعي ينقل اليمن من مجتمع تقليدي إلى مجتمع مدني حديث، إلى ثأر مفتوح ودائم لا يكتفي بمحاكمة الأزمة في حاضرها وحدودها الطبيعية بقدر ما يحولها لصراع مفتوح غير قابل للحسم وتوسيع حدودها من إسقاط الإمَام والدولة المتوكلية إلى شيطنة عامة للتاريخ والمذهب والفكر والأتباع في الماضي وامتداداتهم في المستقبل.
ولأَنَّ العقلية الثأرية عقلية عمياء فَإنَّها كانت تضللنا عن الأسباب الحقيقية لتأخر الأوضاع في اليمن، وتختزلها في سبب وحيد؛ الإمَام ونظام الإمَامة، فيكفي أن يسقط الإمَام لتنصلح أحوال اليمن، وعلى حَدِّ المناضل عبدالله باذيب “تغيير الوضع في مفهوم الأحرار لم يكن أكثر من إزالة الإمَام، ولم يفكروا في كيفية تغيير الأوضاع”. وهي الخدعة التي وقع فيها عبدالناصر عندما صور له أن إسقاط الإمَام كفيل بإنجاح الثورة كما حصل في ثورة يوليو، ناسين أن مصر مجتمع دولة ورعية (اليمن مجتمع دولة وقبائل)، وأن حركة التمدين في مصر عمرها قرن ونصف القرن وكتلة ثورية منسجمة وقاعدة اجتماعية مدنية واسعة، وقيادة ملهمة ممثلةً في عبدالناصر... إلخ، (وهي العوامل ذاتها التي ميزت ربيع مصر عن ربيع اليمن)، سقط الإمَام ولم تنصلح أحوال اليمن، ودخلت اليمن وعبدالناصر في متاهة خرج منها منهكاً، وتبين أنها كانت اندفاعة غير مخطّطة بلا رؤية ولا مشروع مدني -كما أشار باذيب- ولا قيادة ملهمة للجماهير ومقنعة على النخب المدنية والقبلية ومسيطرة عليهم (السلال مناضل، لكن لم يكن زعيماً كعبدالناصر، والسبب في اختياره لقيادة الثورة أنه كان لا بد من اختيار قائد للثورة فاختاروا أعلاهم رُتبةً)، ولا قاعدة مدنية اجتماعية صلبة ولا كتلة ثورية متجانسة وموحدة، فما يجمع القوى المنضوية تحت مظلة الجمهورية هو الخصومة مع الإمَام وليس المضامين السياسية والاجتماعية للثورة.
ولهذا سرعان ما انزلقت نحو الحرب الأهلية وسقطت سريعاً بأيدي القوى الثأرية. تفسر الباحثة السوفييتية، إيلينا جولوبوفسكايا، مأزق النخبة المدنية التي نفّذت الثورة ومعظمُها من الطبقة الوسطى التي حصلت على تعليمها في الخارج من المثقفين والعسكريين المدنيين والبرجوازية الوسطى، في ضعفِ القاعدة الاجتماعية والكتلة الثورية التي تدعمها وتساندها، لذلك وجدت نفسها عاجزة عن وضع برنامجها موضع التنفيذ، ووجدت نفسها في النهاية مضطرة للتنازل للقوى التقليدية لجذب الوجاهات الاجتماعية التي تتمتع بالهيبة والنفوذ في مجتمع تقليدي من المشائخ، ورجال الدين المتأخونين ومن تضررت مواقعهم في انقلاب 1948، من العلماء والهاشميين، واستغلال رغبتهم في الانتقام من الإمَام ودولته؛ ولأَنَّ خلافَهم مع الإمَام لم يكن في الأَسَاس على نظام الحكم، بل على عوائده وعلى تقليص سلطتهم ونفوذهم على قبائلهم وفي محلاتهم (لم يكن لدى هذه القوى مشكلة في تغيير النظام الجمهوري واختيار نظام لا جمهوري ولا ملكي تحت مسمى الدولة الإسلامية اليمنية، على سبيل المثال كان الزبيري ينادي بفكرة الدولة الإسلامية، وَفي 1965 وقع ما يقارب 79 شخصية اتّفاق الطائف لإقامة دولة تحت مسمى الدولة الإسلامية اليمنية).
ليس هؤلاء فحسب، فالمفكر عبدالله باذيب يأخُذُ على فريق من الأحرار تصورهم للنضال والكفاح الشعبي على أنه عداء شخصي للإمَام وخضوعه للأحقاد الشخصية والارتجال وغياب الاستراتيجية المناسبة للنضال وطرح الشعارات السابقة لأوانها ومداهنة الاستعمار.. تمكن الثأريون من الاستحواذ على المواقع القيادية العليا في الدولة، ووضع مؤسّساتها تحت تصرفهم، واستبدال الرعوية الدينية قبل الثورة برعوية دينية قبلية إخوانية وسلفية وهَّابية أكثر راديكالية وعصبوية، واستبدال الملكية الإمَامية بجمهورية حنبلية، وَدولة الإمَام بدولة زعماء القبائل الأقوياء.
حولت العقلية الثأرية ذكرى ثورة سبتمبر إلى مناسبة للشتيمة كطقس موسمي لكل ما هو هاشمي أَو زيدي، السلالة، التاريخ والتراث والرموز، وتكريس ذاكرة جمعية عدائية نحو بعض الفئات الاجتماعية، وتبخيس الرأسمال الزيدي وخلق مناخات نفسية وأيديولوجية مشحونة بالعواطف الثأرية والعصبوية.
خطورة الثأرية كونها لا تنظر لثورة 26 سبتمبر مشروعاً وطنياً جامعاً، بل سلاحاً يُشهِرُه -بعد إفراغه من مضامينه الوطنية والإنسانية- للثأر من الماضي والحاضر وتشوه علاقتنا بالواقع والتاريخ، كما لو أن ماضي الشعوب بيتٌ من قصيدة يمكن حذفُه أَو الاستغناء عنه.
في كتابه «الثقافة والثورة في اليمن» استنكر عبدالله البردوني ترديدَ بعض الكتابات لأُسطوانة غريبة تنظر لثورة سبتمبر كأنها بداية الوجود اليمني وأن عمر اليمن هو عمر الثورة، ولم يكن في اليمن أي مستوى من التعليم ولا أي نصيب من الثقافة... إلى آخر قائمة النفي لحقيقة يمنية اليمن.
سمعت بالصدفة مقطعاً صوتياً مسجلاً من خطاب للزبيري أعتقد أنه بمناسبة أعياد الثورة قال فيه: إن ثورة سبتمبر حرّرت الشعب اليمني من عبودية العباد إلى عبودية الله.. اندهشت لهذه السقطة من شخصٍ يعتبر أيقونة سبتمبر، ومحتواها التكفيري الذي يدين عقيدةَ اليمنيين لعشرة قرون، وهي إن كانت تقصُدُ إلى إدانة تاريخ الإمَامة السياسية إلا أنها تسيء -بوعي أَو بدون وعي- إساءةً بالغةً للذات اليمنية وللأجيال اليمنية على امتداد عشرة قرون إلى أن قيض الله لليمن عبدالناصر وأعتقها من عبوديتها!
الآن وبعد مرور أكثر من نصف قرن على الثورة لم يعد من المقبول استمرار نفس الردح الموسمي والمسلمات المكرورة للعقلية الثأرية التي ظلت دهراً ومازالت تضللنا عن إدراك واقعنا واستكشاف أسباب أزماتنا المتناسلة، وصار بين أيدينا من الوقائع والشواهد ما يكفي لدحض فرضيات السرديات الثأرية التاريخية الاجتماعية والسياسية.
ليس الهدف الطعن في الجمهورية ولا الثورة ولا تبييض صفحة الدولة المتوكلية ولا إعادة اجترار الماضي ولا استحياءه في حاضرنا بقدر ما نريد إنهاء الثأرية المفتوحة باسم الثورة والجمهورية والوحدة وإسقاط أهلية العقلية الثأرية للحديث عن التاريخ والسياسة، وسيطرة الثأريين على تقرير مصير الجمهورية والدولة واستخدام الإمَامة والزيدية والهاشمية فزاعة وسياجاً عازلاً لتزييف وعي الجماهير عن حقيقة الاستغلال الذي يُمارس عليهم باسم الجمهورية والثورة وتنويمهم مغناطيسياً بشدهم نحو هذا المصدر الخرافي لكل الشرور والأزمات التي مرت بها ومازالت تمر بها اليمن من انهيار السد إلى هروب هادي. وتغييب الواقع لصالح بقاء واستمرار دولة الفَيْد العشائرية الحنبلية، وحتى لا يبقى تاريخنا يضلّل حاضرنا، وحتى لا يبقى مواد مفتوحةً للاحتراب الداخلي.
كون ذلك مقدمةً ضروريةً للمصالحة مع الذات والتاريخ ولإعادة تصويب مسار الجمهورية والدولة لتكون دولة وجمهورية كلّ اليمنيين لا دولة وجمهورية مَطْلَع ولا مَنْزَل، لا شمال ولا جنوب، لا شوافع ولا زيود، لا قحطانية ولا عدنانية، إنما دولة جمهورية يمنية يمنية.