هذا ما صنع اليمن فأروني ما تصنعون لفلسطين!

هذا ما صنع اليمن فأروني ما تصنعون لفلسطين!

يحيى الشامي

لهذا السبب كانوا يحاربون اليمن ولأجل هذه اللحظة التاريخية أثخنوه قتلاً وأوجعوه حصاراً ودماراً وأمراضاً و أوبئة، لثمان سنوات، وقبلها عاش اليمن عقوداً في سجون اللا موقف خلف قضبان الهيمنة السعودية كأداة للسطوة الأمريكية، وحين ثار مارسوا عليه أصناف العدوان عقاباً وإرغاماً له على العودة إلى مربع الارتهان، فتحمل اليمن تكاليف القيام وقاوم وجاهد ليصل إلى حيث يجب عليه أن يكون وأن يتموضع في قلب معادلة الصراع وفي رأس الحربة منها.

اليمن الذي تجهلون

في أول موقف له -رغم سنوات العدوان وأعباء الحصار – ينبري اليمن المحاصر والمحارب مسجلاً أول موقف وأقوى موقف لدولة عربية  مع فلسطين وبما يستطيع ويتمكن فيشارك وبقوةٍ، ويرمي على العدو الإسرائيلي  من الأسلحة مالم يرمها في ذروة معركة الدفاع عن نفسه في وجه أشقائه العرب؛  فماذا لو استتب له الوضع وكيف لو أُتيح له المجال وثنيَت له الوسادة ؟! وقبل ذلك هل أدرك الغافلون أو المتغافلون من نخبة الأمة وفلاسفتها ومنظريها، من النافخين في رياح عاصفة الحزم حجم المكيدة وخبث المقصد وقد بانت في حقيقة “التحالف العربي الكبير” اليوم !!.

هل تساءلتم يوماً لم تقرّر القيادة اليمنية استخدام ساحة البحر والممرات المائية كورقة للضغط نحو إيقاف العدوان، ولمَ اليوم تحديدا في معركة اسناد فلسطين و مناصرة غزة لم تتردد القيادة في الضرب بيد من حديد على هذه الورقة الرابحة له والمرعبة للعدو ؟!.

تدرك القيادة اليمنية ممثلة بالسيد عبدالملك الحوثي أبعاد معركة طوفان الأقصى وحجم المخاطر الوجودية لها ولقوى وفصائل المقاومة وبالتالي تداعياتها على مشروع تحرير فلسطين كعنوان لتحرر الأمة عمومًا في معركة لا تحتمل أقل من النصر لما يترتب على نتائجها من مخاطر تطاول المنطقة برمتها ولن يكون أحد بمنأى عنها.

 فبالرغم من محدودية جعرافيا المعركة المحتدمة في غزة إلا أن حدودها كجبهة تبدأ من المحيط إلى النهر، وسط هذا المشهد بالغ التعقيد والصعوبة رفع العدو الصهيوني عقيرته مستدعياً الغرب ومستجلبا أساطيله وسفنه ودعمه، وقد لبّى الأخير وعلى رأسهم أمريكا فمنحوا “إسرائيل” من الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي والنفسي ما لم تحظ به منذ تأسيسها ولا في أي الحروب التي خاضتها من قبل.

جسور جوية محملة بصنوف الأسلحة والعتاد الحربي، و وفود دبلوماسية مرددة كل عبارات الدعم  والاسناد والتأييد والتضامن من مختلف دول الكفر الغربية، وفي المقابل وجدت غزة نفسها وحيدة في المعركة ومحاصرة ومخذولة من أشقائها، وأوغل العدو الإسرائيلي في القتل وارتكاب المجازر والمذابح مستغلاً الدعم الغربي غير المشروط لما يسميه هو والغرب والمجتمع الدولي بـ “حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها”.

بالنسبة للمحتل الإسرائيلي كانت هذه بمثابة فرصة تاريخية لتصفية القضية الفلسطينية ولاستكمال ما بدأته في هذا السياق، فلم يعد أحد يرى في المشهد دماء الفلسطينيين ولا أشلاءهم، حيث امتلأت الشاشات والصحف والندوات بأخبار ما يسميه الصهاينة بمجازر حماس وانتهاكاتها والذي تبين لاحقا أن “اسرائيل” نفسها هي المسؤولة عنها.

وهكذا واصل الصهاينة القتل بحق الفلسطينيين باطراد مع بكائيات الغرب المنساقة مع سرديات الصهاينة، وبدى أن لا شيء يمكنه إيقاف مخطط المحتل الاسرائيلي في غزة.

لم يكن العالم يأبه بما يجري فالمجتمع الدولي بين معلن لدعمه الصهاينة أو متواطئ مع جرائمهم وقد اختارت الأنظمة العربية التواطؤ في أسوأ خذلان واجهته فلسطين منذ نكبتها في الـ ٤٨.

 أو يأتي الله بأمرٍ من عنده

تفرز الشدائد مواقف ملونة وملتوية وقليلة منها المستقيم، ويتجلى فيها معادن الناس؛ أفراداً ومجتمعاتٍ و دول (ليميز الله الخبيث من الطيب) و قد تمخضت المعركة عن جبال أضحت سراب و رجال بانَ فيهم خيط النفاق بما فاق التصورات وطار عن توقعات المستشرفين والمحللين الأذكياء، وهذه المفرَزَة  لوحدها مكسبٌ تستضيء به الأجيال بما يغنيها عن مغبة التجارب الفاشلة والحروب الخاسرة.

أما اليمن فدون أن يترك فلسطين أو أن يفوته أداء هذه المسؤولية الإنسانية الدينية القومية وهذا الشرف التاريخي العظيم، لم يكن قرار المناصرة الذي أعلنه السيد في الأسبوع الأول من عملية الطوفان صادما للعدو ولا مفاجئا للصديق حيث القضية متأصّلةً في صميم المشروع الثوري وحاضرة في وجدان الثوار وجداول الأعمال وأجندات الملفات والقضايا.

 كان لافتاً للبعض ربما أن سقف المناصرة الذي أعلنه السيد عبدالملك الحوثي هو ذاته المرتفع منذ بدايات المشروع امتداداً لصوت الشهيد القائد مطلع القرن الحالي، الذي وضع فلسطين نصب عينيه وقدّمها على كل القضايا الداخلية، وكانت عنوانا ومضمونا لأول محاضرة ألقاها في سلسلة دروسه المقدمة بعنوان (من هدي القرآن)؛ بهذا القدر من الوضوح في الرؤية نمى المشروع وتوسع ثباتاً وإيماناً نقيا من المزايدة وخال من المتاجرة والمفاخرة، حتى استوى ظاهرُ شعاراتنا مع باطن مشروعنا القرآني على بينة من الحق وحق من البينة.

لا يمكن لأي قراءةٍ أو تحليلٍ للموقف اليمني العالي القفز على مبدئية القضية الفلسطينية في صلب مشروعه الثوري المبني أصالة عن التربية القرآنية والإيمانية، صحيح أن لليمنيين ميلٌ واضح تجاه القضية الفلسطينية وارتباط استثنائي ظهر في محطات عدّة، لكن الجديد هذه المرة هو أن التقاء الموقف الرسمي بالتعاطف الشعبي بما يثمنه ويثمره في حالة باتت نادرة أو منعدمة في بقية الدول العربية، لاسيما وان القيادة في صنعاء تلقّت عشرات الرسائل من أطراف أمريكية ودولية تراوحت بين التهديد والترغيب وفق ما أكده في معرض رفضه لها السيد القائد في خطابه الأخير .

وهنا تحضرني شهادة عضو من فريق الوساطة العمانية؛ حيث يؤكد أن صنعاء رفضت عرضاً يمنحها السيطرة الكاملة على كامل اليمن من جنوبه إلى شماله بما فيه من الموارد والموانئ والمطارات، مقابل التخلي عن مناصرة فلسطين، وقد جاء الرد وفق الوسيط العماني حازماً وفورياً أن “فلسطين منا أهل اليمن”.

وهكذا اختارت القيادة في اليمن المضي في طريق الواضح المعلن مدركةً كلفة الموقف وأكلاف الثبات عليه، ولم تكتف بأسراب الطائرات المسيّرة وصليات الصواريخ البالستية والمجنحة بل ذهبت إلى البحر فاتحة جبهة هي الأخطر على العدو وبمستويات من المواجهة قابلة للتصعيد بما لا يقوى عليه الأمريكي ولا يحتمله كيان العدو الإسرائيلي، واضعا بذلك حدا لهمجية التوحش الغربي في حربه الصليبية الجديدة ضد الإسلام

جاءت عملية العشرين من نوفمبر البطولية مكملة مشهدية الحضور اليمني، وهي الضربة التي يصفها خبراء من الغرب بالقاصمة التي أنزلت العدو من شجرة أهدافه المعلنة إلى واقع ضعفه المزري، ليعيش مرارة الهزيمة من حيث لم يحتسب وليستشرف موته المقترب و زواله الأقرب، وقد بات لغزة حدود تبدأ من لبنان شمالاً  وتمتد جنوباً إلى البحر الأحمر وإلى باب المندب المغلق في وجه “اسرائيل”.