بقلم / علي ظافر
كثرت التحليلات والتفسيرات لتصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الأخيرة التي بثّتها وسائل الإعلام السعودي الرسمية والرديفة.
وقد استوقف الكثير من المحليين والمراقبين على وجه الخصوص التحول الطارئ في الخطاب الرسمي السعودي تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية و"أنصار الله" في اليمن، وبرزت تساؤلات عدة عن سرّ التحوّل الدراماتيكيّ السياسيّ بدرجة ثلاثمئة وستين درجة، ودفعة واحدة، من الخطاب الاستعلائي والعدائي طيلة 6 سنوات من القطيعة والحرب، إلى خطاب "تصالحي"، كما وصفه البعض، فهل هو تكتيك أو أن النظام السعودي يفكر بشكل جدي في تغيير استراتيجيته في السياسة الخارجية تجاه اليمن وإيران؟
وكيف انعكست التحولات الإقليمية والدولية على سياسة المملكة وخطابها السياسي؟ هل هي مجرّد مناورة أم أن صيرورة الأحداث والظروف المحيطة فرضت على الرياض مراجعة السلوك السياسي للخروج من أزمات مركبة داخليّاً وإقليمياً؟ وهل يملك ساكن قصر اليمامة الجرأة في ترجمة القول إلى فعل، والتصريح إلى موقف ملموس، بعيداً من إرادة ساكن البيت الأبيض، أو أنها مجرّد مناورة سياسية إعلامية لمجرد الاستهلاك، كما جرت العادة، في ظل المقاربات السياسية السعودية الجامدة لحل أزماتها مع صنعاء وطهران؟
ثمة أسباب وعوامل تقف وراء تبدّل الخطاب الرسمي السعودي وتحوله، منها ما هو داخلي في ظل الأزمات السياسية داخل الأسرة الحاكمة نفسها، بدءاً من حادثة الـ"ريتز كارلتون"، وصولاً إلى إخفاء مصير الكثير من الأمراء المنافسين لمحمد بن سلمان، والخلاف مع المؤسسة الدينية، والأزمات الاقتصادية الناتجة من المغامرة العسكرية غير المحسوبة والعدوان على اليمن، والتي تتمثل في توالي العجز المالي في الموازنة خلال سنوات الحرب، وانتقال السعودية من دولة ريعية إلى دولة ضريبة ودولة جباية مأزومة، ومن الفائض إلى الاقتراض، وخصوصاً بعد الانخفاض التاريخي في أسعار النفط وتداعيات كورونا.
على المستوى الإقليمي، لم تفلح الرياض - بميزان الربح والخسارة - بسياستها العدائية في أيّ من الملفات، من سوريا إلى العراق واليمن وليبيا وقطر، وهلمَّ جرّاً، بل ضعفت مكانتها وموقعها في الميزان الإقليمي، حتى أمام شريكتها الإمارات، التي تسعى إلى تعزيز مكانتها داخل مجلس التعاون الخليجي على حسابها، إضافةً إلى موقفها المتواطئ مع واشنطن وتل أبيب ضد القضية الفلسطينية وحركات المقاومة الفلسطينية، إلى حدّ اعتقال المنتمين إلى تلك الحركات في السعودية، بتهمة "تمويل الإرهاب" وتهم أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
وعلى وقع خسارة السمعة وتراجع المكانة الإقليمية، مقابل تنامي سمعة الجمهورية الإسلامية وتعزز مكانتها وقوة حضورها في نصرة حركات المقاومة ودعمها، وثبات موقفها في الدفاع عن حقوقها في الملف النووي وغيره، اضطرت الرياض إلى تعديل الخطاب، من التهديد بنقل المعركة إلى داخل إيران، كما توعّد ابن سلمان في مقابلة تلفزيونية في العام 2017، إلى الطموح بإقامة "علاقات مميزة وطيبة مع طهران الجارة... وتبادل المصالح بين البلدين" بعد قطيعة دامت 6 سنوات، استبعد فيها الأمير الشاب إمكانية التفاهم والتقارب مع طهران، ما دفع مراقبين إلى التساؤل عن سرّ هذه التصريحات في هذا التوقيت الحرج جدّاً إقليمياً ودوليّاً.
من تفسيرات هذا التحول أن علاقة ابن سلمان بالبيت الأبيض لم تعد كما كانت عليه في ظل حكم ترامب، الذي وفر له الدعم في الكثير من المواقف والأزمات، بما فيها ملف اليمن والنووي الإيراني واغتيال خاشقجي، إذ توعدت الإدارة الجديدة منذ صعود بايدن بإعادة تقييم العلاقة مع السعودية، ومحاسبتها في ملف الحقوق والحريات، ووقف الدعم العسكري لها... وذلك أحد أبرز دوافع ابن سلمان إلى تعديل منطقه تجاه طهران، إلى جانب يأسه من إمكانية عزلها وضربها عسكرياً وإضعافها بالعقوبات، بعد أن انتصرت سياسيّاً ودبلوماسياً واقتصادياً، وأجبرت واشنطن ودول الغرب على تحريك الدبلوماسية النشطة للعودة إلى الاتفاق النووي بشروطها، خلافاً للرغبة السعودية والصهيونية، كما أن هذا التحول السعودي المفاجئ جاء بعد تسريبات عن مفاوضات سعودية إيرانية سرية في بغداد.
في الشأن اليمني، بدا الخطاب أيضاً خالياً من "العنتريات"، ومليئاً بالمغازلة السياسية، إذا جاز التعبير، فبعد أن كان يصف "أنصار الله" بـ"المجوسية والتبعية لإيران"، اعترف لهم بـ"النزعة العروبية واليمنية"، وجدّد عرض الرياض بـ"وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات مقابل الدعم الاقتصادي وكل ما يريدونه".
قد يبدو الخطاب في ظاهره إيجابيّاً، لكن صنعاء لا تثق بمجرد الأقوال، وإن كانت إيجابية، ما لم تتحول إلى أفعال على الأرض، وذلك ما بدا واضحاً في تعليق كبير المفاوضين محمد عبد السلام على تصريحات ابن سلمان بأن "أي خطاب إيجابي تجاه اليمن مرهونٌ بتطبيقه عملياً، برفع الحصار وإيلاء الجوانب الإنسانية أولوية، لكونها قضايا ملحة تلامس حاجات جميع أبناء الشعب اليمني، ومثل هذه الخطوة سيكون مرحباً بها، وتثبت حقيقة التوجه نحو السلام في اليمن". من هنا، يبدو أن الدبلوماسية اليمنية تنظر بإيجابية، ولكن بحذر، وتنتظر من الرياض إثبات توجهها عمليّاً نحو السلام في اليمن.
في مقابل الترحيب الحذر من صنعاء، كان هناك استياء واسع في أوساط الناشطين المحسوبين على الأطراف اليمنية الموالية للرياض، إذ اعتبر بعضهم أنَّ الموقف السعودي مؤشر على بداية الطلاق والتخلي عما يسمى بـ"الشرعية"، وبالتوازي بداية اعتراف بشرعية صنعاء، وذلك بطبيعة الحال استحقاق المنتصر، فصنعاء قاتلت وصمدت 6 سنوات، ولم تُقهر أو تقبل الهزيمة، وكان صمودها وما فرضته من معادلات ميدانية وسياسية كفيلاً بتعديل الخطاب وقلب الطاولة على أهل العدوان، من واشنطن إلى الرياض، الذين باتوا اليوم بعد 6 سنوات يفتّشون عن أقرب منفذ للخروج من ورطتهم التاريخية في اليمن، وبأيّ ثمن.