رباني آل محمد .. السيد العلامة المجاهد بدر الدين بن أمير الدين الحوثي
في عصرٍ اضمحلت فيه الهداية وتعالت صيحاتُ الضلالة وخضعت فيه زعاماتُ العرب ونكست رؤوسها ذليلة منكسرة لتخلع تيجانها وتضعها بعهدة السياسة الصهيوأمريكية ..، في عصرٍ تحالف فيه معظم علماء الإسلام مع أمرائهم بِصمْتهم وتقوقعهم في زوايا المساجد وانهماكهم في بطون الكتب الوضعية وهجرانهم لمنهجية القرآن الكريم ، فكان القليل من العلماء الذين تحملوا مسؤوليتهم أمام الله ليجسدوا الإسلام بحق ، و يصنعوا من خلال ذلك أمّةً قوية بإيمانها و سلوكها .
لقد كان السيد العلامة بدر الدين الحوثي أبرز أولئك الذين حملوا همَّ الأمة الإسلامية ثقافةً ومصيراً، حاملاً لواء القرآن الكريم مشعلاً في دهاليز الظلمات وغياهب الجهل، فإن شئتَ رأيت في علاقته بالله إبراهيمَ الخليل الذي جسَّد التوحيد بأبهى صوره، وإن شئتَ رأيت في سلوكه ومؤلفاته لقمانَ الحكيم، وإن شئتَ رأيت في صبره وثباته أيوبَ النبي الأواب، وإن شئت رأيت في أُنسه بالقرآن محمداً رسولَ الله، وإن شئت رأيت فيه عليَّ بنَ أبي طالب في حياته وجهاده وتصديه للناكثين والقاسطين والمارقين ، فلم يكن يعلم أن خطواته وتحركاته ومنهجيته التربوية ستشكّل مرتكزات المسيرة القرآنية حتى مدَّ اللهُ في عمره الشريف ليرى حصادَ جهاده و ثمرة صبره وكفاحه . إن الحديث عن هذا العالم الرباني هو حديثٌ عن الإسلام ومبادئه وقيمه وكل أخلاقياته ، حيث تجسدت تلك القيم والمبادئ والمٌثل في شخصيته فكراً وسلوكاً وجهاداً وتضحية، فهو العالم العارف بالله سبحانه معرفة جعلته يذوب في خشيته وفي السعي لما يحبه و يرضاه .
المولد والنشأة :
في مدينة ضحيان بمحافظة صعدة أقصى شمال اليمن وُلد السيد بدر الدين بن أمير الدين الحوثي في 17 جمادى الأولى سنة 1345هـ ، ينتهي نسبه إلى الإمام الهادي إلى الحق يحي بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام .
نشأ في أسرة كريمة مشهورة بالعلم والورع والتقوى والزهد والعبادة ، فوالده السيد العالم الرباني (أمير الدين بن الحسين الحوثي) وأعمامه السادة العلماء الأفاضل السيد (الحسن بن الحسين) والسيد (يحيى بن الحسين) وكلهم كانوا الغاية في العلم والتقوى ومكارم الأخلاق، أما جدّه فهو السيد العالم الأكبر (الحسين بن محمد الحوثي) أول من هاجر من مدينة حوث إلى مدينة ضحيان وإليه تنتمي أسرة آل الحوثي الحسنيون في محافظة صعدة. أما والدته فهي الشريفة الفاضلة (فاطمة بنت حسين فائع) الضحياني رضوان الله عليها.
تربى في حجور العلم والتقوى والزهادة والعبادة، وفي هذه المدينة التاريخية التي تُعد المعقل الأكبر للعلماء والفضلاء الذين تتلمذ على أيديهم ونهل من علومهم السيد الراحل (رضوان الله عليه) بالأخص والده أمير الدين، وعمه الحسن، والقاضي العلامة عبد العزيز الغالبي (رضوان الله عليهم أجمعين) كانت المساجد آنذاك تغصُّ بالعلماء وطلاب العلم حيث كانت مهبط طلاب العلم الشريف يهاجرون إليها من شتى البلدان .
وفي هذه الأجواء الإيمانية والمحافل العلمية عاش السيد الراحل متنقلاً بين حلقات العلم والمعرفة مرتشفاً من معين التقوى والعرفان حتى وصل إلى مستوى يُشار إليه بالبنان ، عاش مع القرآن وحفظه عن ظهر قلب وسبر أغواره وارتوى من معينه حتى لُّقَّب بفقيه القرآن ، كما تعمق في اللغة والأدب والفقه والأصول، والسِّيَر والتاريخ وبالأخص تاريخ أهل البيت عليهم السلام ، حتى برع في كل مجال وارتقى الصدارة بكل جدارة ، فكان الفقيه المحقق والمطّلع المدقق .
هجرته المباركة :
في الثالثة والثلاثين من عمره قرر أن يقوم بزيارةٍ إلى جهة المغرب بحثاً عن مناخ ملائم لطبيعة مرضه (الربو) الذي أُصيب به (رحمة الله عليه) منذ طفولته، وعانى منه أشد المعاناة، فمضى باتجاه بلاد خولان عامر التي تُعرف بهوائها النقي و باعتدال درجة الحرارة وهو ما كان يبحث عنه كعلاجٍ طبيعيٍ لمرضه، لعل ذلك يساعد على تخفيف المعاناة، وكان محط رحله قرية (الرويس) من بلاد البحري التابعة لمديرية ساقين، وهنا بدأت مسيرته الجهادية فكراً و حركةً .
استقر في تلك البلاد فترة متنقلاً في مناطقها مرشداً ومعلماً ومصلحاً ومضى يواصل رسالته حتى ترك الأثرَ العظيم في أوساط الناس الذين كانوا متعطشين إلى مثل تلك العلوم والإرشادات، فكان بمثابة النور الذي أضاء لهم الطريق، والدليلِ الهادي إلى سواء السبيل..، وبعد أن لحظ أن هناك مناطقَ أخرى متعطشةً إلى إرشاده وتعاليمه قرر التوجه إلى (مران)، ثم إلى بلاد آل فاضل..، وكان خلالها يسافر إلى مدينة ضحيان لقضاء بعض الوقت مع بعض أسرته الذين كان قد نقلهم إليها، كما كان يستغل فترة بقائه هناك للقاءاته بالعلماء وزيارته للأرحام الذين كان معظمهم بمدينة ضحيان وضواحيها.
وهكذا ظلّ السيد الراحل يتنقل في رحاب خولان و جبالها معلماً ومرشداً وهادياً حتى بذَر البذرةَ الطيبة وتخرَّج على يديه مجاميع من الشباب المثقف الواعي الذين شكلوا الطليعة للنهضة الفكرية في ثمانينات القرن الماضي وكانوا الشرارة الأولى التي انطلقت تحت رعاية السيد الراحل(رضوان الله عليه) لمواجهة الغزو الوهابي في المحافظات الشمالية بالذات .
(ارتباطه بالقرآن الكريم ) :
لقد قصد القرآن الكريم في رحلةٍ إليه منذ شبابه حتى وصل إلى واحاته الخضراء ، وغاص في أعماقه ، حيث مضى يتدبر القرآن آيةً آية ، ويحوّل مفاهيمها إلى منهجٍ عملي جهادي يعكس توجيهات القرآن الكريم في الدعوة إلى الخير والإصلاح بين الناس، والاهتمام بقضايا الأمة وعلى رأسها (القضية الفلسطينية)، رحلةً طويلة أمضاها مع القرآن حتى ترسخت مفاهيمه وتجذرت في أعماقه، فبدت آثارُها في سلوكه وتصرفاته..، وهو كما قال السيد عبدالملك بدرالدين الذي كان أكثر أبنائه ملازمةً له :(( مما أعرف عنه أنسه العظيم بالقرآن الكريم فكان يلازم تلاوة القرآن الكريم ، دائما يحرص على ألا يمر عليه يوم من الأيام إلا ويدرس ورداً لا بأس به من القرآن الكريم وعند الشدائد وعند الأحداث وعند الملمات وعند المحن كان يلجأ إلى تلاوة القرآن الكريم وألحظ له أُنساً كبيراً بالقرآن الكريم ، يلجأ إلى تلاوته بنغمته الشجية بصوته الشجي ويعيش معه حالة مؤثرة جداً الحالة الإيمانية التي يعيشها أيُّ إنسان مؤمن علاقته عظيمة بالله سبحانه وتعالى، ثم اهتمامه بالقرآن الكريم عن طريق التفسير عن طريق التعليم لطلابه، عن طريق دفع أبنائه إلى الاهتمام بالقرآن الكريم ودفع الآخرين للاهتمام بالقرآن الكريم وبشكلٍ كبير.. )) .
جانب الورع :
أما في جانب الورع والزهد والصبر فالحديث فيه يطول، إنه بحق نموذج فريد عز أن تجد له فيه نظيراً. يجف القلم ويخرس اللسان، ويتيه الفكر دون أن يحيط بهذا الجانب من حياته (رضوان الله عليه) ولكن ومضاتٌ تكفي من أراد الاقتداء والتأسي بهذا العالم الرباني الذي صور لنا بحياته حياة النبي الكريم وعظماءِ أهلِ البيت الطاهرين صلوات الله عليهم .
نماذج في الورع والتحري والعدل:
ينقل عنه أحدُ أبنائه وهو السيد محمد بدرالدين الحوثي هذا الموقف الملفت قائلاً : ((في يومٍ من الأيام أرسل إلي أحدُ مرافقيه يطلب مجيئي بسرعة .. بادرت فوراً وأنا في منتهى القلق على صحته متسائلاً : ما الأمر؟ وماذا حدث؟ وما أن دخلت عليه حتى وجدته بصحة جيدة فتنفستُ الصعداء وحمدت الله على سلامته وهنا بدأ يسرد لي قصة الدافع لاستدعائي وبهذه العجلة وتتخلص في أنه قد كان استعار كتاباً من أحد العلماء بضحيان قبل عدة عقود من الزمن، ومع أنه قد أعاد الكتاب لذلك العالم إلا أنه تذكر أن أحد أطفاله قد كان وهو يلهو بجانبه قد سكب قليلاً من الماء فوق غلاف الكتاب المجلد وهو يلعب بجانبه، وأنه ربما قد يكون وصل البلل إلى شيء من داخل الكتاب يؤدي إلى نقصٍ من قيمته!! وهو يشكر الله على تذكرهِ لهذه القضية التي شغلت باله جداً ، وحينها دفع إلي (250) ريالاً سعودياً وأمرني بالذهاب إلى ورثة هذا العالم وتسليم المبلغ إليهم عوضاً عن ذلك النقص المحتمل، مع طلب المسامحة منهم، وأكد ذلك عليّ وشدّد في أن أُنفذ الأمر في نفس اليوم، وبالتأكيد نفذت الطلب في نفس اليوم ، وعندما عدتُ لزيارته مرة ثانية كان أول كلامٍ له هو السؤال عن تنفيذ ما طلبه مني فأجبته: نعم . فابتسم وحمد الله كثيراً وشكرني على ذلك وأغرقني بالدعاء (رحمة الله ورضوانه عليه). )) .
جانب الكرم والحفاوة وشدة التواضع:
كان يكرم الضيف ويقوم بخدمته بنفسه ، وحتى لو كان الزائرُ أحدَ أولاده كان يطبق معه الحفاوة مع الضيف الأجنبي، وعندما يطرق الباب كان ينهض بسرعة لفتح الباب حتى ولو كان الأولاد بجانبه ، لم يكن يرى لنفسه حقاً على أحدٍ رغم كبر سنه ومعاناته من المرض ، وعندما يُقدم له شخصٌ ما أبسطَ خدمة أو نفعاً ، كان يرى ذلك إحساناً عظيماً ويبقى أثره الطيب في نفسه دائماً، ويهتم بالمكافأة اهتماماً كبيراً .
علاقته بأسرته وأرحامه :
كان يولي قضية الأرحام اهتماماً كبيراً ويوصي بذلك كثيراً، فعلاوةً على التكريم والحفاوة والتعظيم والإجلال والبشاشة وزيارتهم والدعاء لهم، كان يعطي عامةَ أرحامه ما تيسر لديه من المال لكل فردٍ منهم بالتساوي، ذكراً كان أم أنثى، غنياً كان أم فقيراً، وكان يبادر لزيارتهم والتعرف على أحوالهم, ويرشدهم إلى المحافظة على الأخوة والتكافل والتعاون, ويكّر كثيرا بالآيات والأحاديث في أهمية صلة الرحم وخطورة قطيعتها.
أسلوبه في الجانب التربوي :
هذا الجانب كان يحظى باهتمام كبير عند السيد الراحل (رحمة الله عليه)، وقد اعتمد في ذلك على القرآن الكريم باعتباره جاء من الله سبحانه الذي يعلم دخائل النفس البشرية. ويصف السيدُ عبدُالملك هذا الجانب من حياة والده (رحمة الله عليه) قائلاً : (( وكان يعتمد في أسلوبه التربوي على التأثير بنفسه لأنه دائماً يكون في موقع القدوة، أخلاقياته، وما هو عليه من روحيةٍ عالية، وأخلاقٍ عظيمة تجعل أبناءه، من يعيشون معه، طلابه، المرتبطين به من الناس يتأثرون به، يتأثرون بأخلاقه، يتأثرون بروحيته العالية باهتمامه الكبير، باستشعاره المسؤولية، فكان يترك أثراً من اهتمامه، أثراً من أخلاقه، أثراً من جِده، أثراً من توجهه العظيم إلى الله سبحانه وتعالى، أثراً من استشعاره للمسؤولية على كل محيطه المرتبط به... كان أكثر ما يركز عليه كقضية أساسية في منهجه التربوي تعزيز وتقوية العلاقة بالله سبحانه وتعالى، هذه قضية أساسية يحرص عليها دائماً ، ترسيخ المعرفة بالله سبحانه وتعالى ،...أنا في معايشتي له فيما كنت أتلقاه من نصائح من تعليمات من توجيهات من معارف كنت ألحظ أنه كثيراً ما يركز على هذا الجانب، الحب لله، الخوف من الله، العلاقة الحقيقة بالله سبحانه وتعالى، والاهتمام بالجانب العبادي بشكلٍ صحيح وسليم ليؤدي ثمرته، الاهتمام بالصلاة القيّمة التي تؤدي دورها في واقع حياة الإنسان في قيامه بمسؤولياته، في اجتنابه للفحشاء والمنكر، في بُعده عن مساوئ الصفات والأخلاق ..)) .
جهاده الفكري:
لقد كان (رضوان الله عليه) على درجةٍ كبيرةٍ من الاهتمام بشؤون الأمة وقضاياها الكبرى، وكان يتابع الأحداث من خلال الراديو صباحاً ومساءً، ويناقشها ويحللها باهتمامٍ بالغ، ويدعو دائماً بالنصر للمستضعفين في الأرض خصوصاً في فلسطين وما يعانونه من ظلم الصهاينة الغاصبين، كما تميز (رحمة الله عليه) بالحماس الكبير، والغيرة على الدين من أن تمتد إليه الأفكار المسمومة، وعندما يَطلع على مقالٍ أو يقرأُ كتاباً أو يسمعُ بفكرة تنال من دين الإسلام ومن عقيدة أهل البيت (سلام الله عليهم) لا يستقر له قرار ولا يهدأ له بال حتى يهبَّ لصدها وتفنيدها وإبطالها ، ولكن بأسلوب مهذب وطريقة علمية، ومنصفة ، فتراه في جميع كتبه في الرد على المخالفين يذكر حجة الخصم ثم يرد عليه من كتب أهل مذهبه كي يُلزمه الحجة .
مؤلفاته :
وعندما بدأ الغزو الوهابي للبلاد اليمنية كان (رضوان الله عليه) أول من تصدى له بقلمه ولسانه في إطار جهاده الفكري، فألف عشرات الردود ما بين كتاب ورسالة وشريط كاسيت، ومن أبرز مؤلفاته :
(الإيجاز في الرد على فتاوى الحجاز)الذي صدر عام 1397هـ تلك الفتاوى التي صدرت عن مفتي السعودية حينها عبدِ العزيز بن باز والتي كفّر فيها من يزور القبور.
(تحريرُ الأفكار عن تقليد الأشرار) .
(الغارة السريعة في الرد على الطليعة) وهذان الكتابان الأخيران هما من الردود على مقبل الوادعي، وقد تضمنا الرد على معظم الشبهات التي يوردها الوهابيون ويجادلون بها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في شتى الجوانب الأصولية و الفرعية ، وعلمِ الرجال وغير ذلك .
كما أن من أهم مؤلفاته وأوسعها كتابه : (التيسيرفي التفسير) وهو موسوعة عظمى في تفسير القرآن الكريم كاملاً مكونة من سبعة مجلدات وهو الآن بحمد الله مطبوع وفي متناول الجميع.
وله العشرات من المؤلفات ما بين مبسوط ومختصر في مواضيع متعددة .
جهوده في نشر العلم والمعرفة:
كان الجيل المسلم من أتباع أهل البيت الطاهرين يتعرض – ومن خلال المدارس والمعاهد وكذا الجامعات التابعة لوزارة التربية والتعليم ومناهجها الوهابية– يتعرض لعملية مسخٍ دماغي يستهدف الهويَة الفكريةَ لشيعة آل محمد (ص)، مدعومةً بالمال الوفير، وآلاف المبشرين بالفكر الوهابي الدخيل، وملايينِ المطبوعات المتدفقة كالسيل الجارف من عددٍ من دول الجوار، وفي إطار تصديه للهجمة الشرسة ضد فكر أهل البيت الأطهار، والعملِ على تحصين الجيل من تلك الأفكار الدخيلة عليه، فقد كثف جهوده في التدريس ونشرِ حلقاتِ العلم، وتوزيعِ المرشدين والمبلِّغين وتشجيعِ ودعمِ المدارس العلمية، واستقبالِ المهاجرين من طلبة العلم الشريف وتعليمهم والإنفاق عليهم بقدر الإمكان ، حيث كان (رحمة الله عليه) يُقدم الإنفاق في ذلك وفي أي مجال من مجالات العمل في سبيل الله على قوتِ أهله وعياله في كثيرٍ من الأوقات .
منهجيته التعليمية :
كانت منهجيتُه وأساليبه في التعليم تتميز بالتحقيق فيما يطرح من المسائل ، وذلك بربطِها بالقرآن الكريم واعتبارِه المرجعيةَ المهيمنةَ على كل ما سواه . يقول السيد عبدالملك بدرالدين في وصف المنهجية العلمية للسيد الراحل (رضوان الله عليه): (( الوالد رضوان الله عليه كان معلماً حقيقياً لم يكن مجرد ملقن كما هو الحال لدى الكثير من المعروفين على أنهم من حملة العلم والمحسوبين على أنهم علماء، لم يكن مجرد ملقن، كانت منهجيته التعليمية قائمة على التدقيق والتحقيق، وعلى تقديم المفاهيم الصحيحة والنقد للمفاهيم المغلوطة في ثنايا التعليم ، ... ثم يحرص على أن يكون لدى طلابه الروحية الحركية واستشعار المسؤولية والاهتمام والجِد أيضاً في منهجه التعليمي، وكان يحرص بشكلٍ كبيرٍ على أن يكون لدى طلابه ولدى المجتمع بشكلٍ عام الحصانة الثقافية اللازمة من الضلال ..)) .
جهاده الحركي :
تمثل دوره الحركي في نشر الوعي الحركي والتربيةِ القرآنية الجهادية، فكان حديثه مركزاً جداً على أهمية وحدةِ الصف وتركِ التفرق، والدعوةِ لإعداد العدة لمواجهة مؤامرات أعداء الإسلام الإعدادِ النفسي والبدني والمادي، فقد كان يستشرف المستقبل بما يهديه إليه القرآن الكريم مما تركزُ عليه آياته الكريمة حول طبيعة اليهود والنصارى وأنهم لا يودّون لنا أي خير ولن يرضوا عنا إلا بإتباع ملّتهم، وأنهم يسعون لإذلال المسلمين واستئصال شأفتهم إما مباشرة أو عبر عملائهم من الطغاة الظالمين مما يجعل الجهاد واجباً مقدساً على كل مسلمٍ مستطيعٍ له . وفي وصف استشعار السيد الراحل لقضايا الأمة يقول السيد عبدالملك بدرالدين : (( كان مفعماً بالثقة بالله، الثقة العالية بالله، الأمل، استشعار المسؤولية، قراءة الواقع، التمييز للأعداء الحقيقيين، مدى خطورتهم، وكان حريصاً أيضاً على الوحدة بين المسلمين لأنه يدرك المخاطر الكبرى التي يعيشها العالم الإسلامي، ونجد أنه منذ وقتٍ مبكر كتب كتابه المعروف (التحذير من الفرقة)، وكان دائماً يدعو إلى الوحدة، يدعو إلى الاعتصام بحبل الله، يدعو إلى اجتماع كلمة المسلمين على التقوى، يدعو إلى أن يتوحد المسلمون في مواجهة ما عليهم من مخاطر كبيرة )) .
محاولات استهدافه :
لقد أشتهر بين العام والخاص المحاولات البائسة لاغتيال السيد بدرالدين الحوثي (رضوان الله تعالى عليه) مراراً وتكراراً ، لأنه كان مؤثراً بشكل كبيرٍ بتحركاته العلمية و السياسية ، فكانت مواقفه المعلنة من سياسات السلطة الظالمة، إلى جانب مواصلة مشواره الجهادي في جميع المجالات، فضاقت السلطة وأذنابُها ذرعاً بهذا العالم المجاهد ومواقفِه المبدئية ، فبدأت تثيرُ الغبارَ في طريقه، وتزرع المشاكل، وتضع العراقيل لإسكاته وتدجينه، فمن الترغيب إلى الترهيب إلى التهديد والوعيد ، إلى مضايقة أبنائه وطلابه والمدارس والمراكز التابعة لنهجه ومساره القرآني الحركي الجهادي، إلى غير ذلك من الوسائل والأساليبِ التي كان أبرزها محاولات فاشلة لاستهدافه رضوان الله تعالى عليه بمنزلة بقرية الخرب بمران نجا منها بألطاف الله ورعايته .
في خضم المسيرة القرآنية :
كان هذا السيد الكريم هو المرجعية الدينية والداعم والرافد لخطوات نجله السيد المجاهد قائد المسيرة الجهادية وباعث النهضة الرسالية الحسينِ بنِ بدرِ الدين (سلام الله عليه) . فعندما انطلقت الصرخة المدوية(..الموت لأمريكا. .الموت لإسرائيل..) والدعوة لمقاطعة البضائع الأمريكية والصهيونية في عددٍ من المساجد، وعبر المنشورات ، وحينما بدأ البعض يشكك في مدى شرعية هذه الخطوة أو جدْوَائيتها كان هذا العالم الرباني(سلام الله عليه) أولَ من هبَّ للدفاع عن هذه الفكرة وبيَّن بكل وضوحٍ أهميتها وضرورتها مستدلاً على ذلك بأقوى الأدلة وأنصعها، ونُشرت فتاواه الجريئة مسطرة بقلمه .
خلال الست الحروب كان يرقب الأحداث عن كثب ويتابع الوقائع لحظةً بلحظة وكأنه في وسط الميدان يتألم لآلام المجاهدين ويفرح لفرحهم، يتحسر كثيراً لعجزه عن المشاركة في ساحة المعركة، ويتمنى لو حملته رجلاه ، ونهضت به قواه ، لبلوغ ما تمناه ، من القتال في سبيل الله . وخلال هذه الفترة ومن بعد الحرب الرابعة بالتحديد حتى الحرب السادسة رغم الأوضاع الأمنية الخطيرة، ورغم التشرد وكل المتاعب والصعاب إلا أنه رأى ضرورةَ مواصلةِ المشوارِ لإكمال مشروعه العظيم في تفسير القرآن الكريم، ومراجعتِه والاهتمامِ به ، وكان قد تبقى منه ستة أجزاء أتمها شفوياً لضعف البصر وعجزه عن الكتابة المكثفة ، وتم تسجيل ذلك وإفراغه من أشرطة الكاسيت، كما حكى ذلك في مقدمة الكتاب .
لقد عانى خلال هذه الفترة من الغربة نتيجةً لِبُعده عن أصدقائه ومريديه، وعانى من الحصار الذي كان يفرضه الوضع الأمني، وذلك بسبب أن السلطة الظالمة كانت حريصةً كل الحرص على معرفة مكانِ تواجدِه لاستهدافِه وتصفيته وبأي وسيلةٍ ممكنة فلم يكن بإمكانه الذهاب إلى أي مكانٍ سوى محيط المنزل الذي كان يقطنه بين الجبال ، والذي اضطر أن يبقى فيها طيلة تلك المدة . إنه التاريخ يعيد نفسه، فهنا الإمام القاسم بنُ إبراهيم الرسي (ع) الذي اضطرّ للتخفي لسنواتٍ طويلة، بسبب ملاحقُة الطغاة له، وهنا محمدُ بنُ عبدِ الله النفسُ الزكيةُ المطارَدُ من قبل السلطات الظالمة في عصره .
لا أضحك اللهُ سن الدهر إن ضحكت *** وآلُ أحمد مطرودون قد قُهِروا
مُحَلَّئُوْنَ نُفُوا عن عُقْرِ دارهم *** كأنهم قد جنوا ما ليس يُغتفرُ
ولكن رغم ما جرى من الآلام وما قاساه من المعاناة، فلقد كان يستعذب كل ذلك، وتأنس به نفسه، فهو مطمئنٌ أنّ ذلك كله بعين الله وفي سبيله، ومن أجل دينه . وفي ذلك يختزل لنا السيد عبدالملك بدرالدين اللحظات التي عاشها معَ السيد الراحل واصفاً معاناته في سبيل الله حيث يقول -حفظه الله- : ((هو معروفٌ بصبره حتى في فترة الحروب الستة كلها، الصبر على المعاناة النفسية، وعلى المعاناة في سبيل الله، على معاناة التنقل، على المعاناة نتيجةً لظروف الحروب، على المعاناة نتيجةً لحجم التضحيات حتى بعدما قدم الكثيرَ من أولاده ومعظم طلابه ومعارفه في سبيل الله شهداء كان ذلك العظيمَ في صبره الذي لم يظهر عليه أي تأثر، أو يظهر عليه أي تراجع، أو يظهر عليه أي انكسار أبداً، بل كان ذلك الرجل العظيم الذي ازداد صبراً وإيماناً وثباتاً واحتساباً لكل ما قدمه عند الله سبحانه وتعالى، بل كان يحمد الله على أنه ضحى في سبيله، وعانا في سبيله، وأنه هاجر في سبيله، وأُوذي في سبيله، ويعتبر ذلك سبباً في الخير، حتى أنه بعد الاستهداف الذي كان في فترة الحرب السادسة، وعند قصف منزله، واستشهاد مجموعةٍ من أفراد أسرته من الأطفال والنساء وغيرهم، كان تلك الليلة مُعرضاً للشهادة بنفسه لولا أن الله سلمه وصرف عنه شرَّ القصف الذي استهدفَ بشكلٍ مباشر منزلَه ، قال بعد تلك الحادثة : إنشاء الله الآن يمكن أن ندخل الجنة ، وتلى قولَ الله سبحانه وتعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثلُ الذي خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزُلزلوا حتى يقول الرسولُ والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصرَ الله قريب} ..)) .
ومن شعر السيد بدرالدين الحوثي (رضوان الله تعالى عليه) الموجه للوساطات التي كانت تدفع بها السلطةُ وتركز على ضرورة ترك الشعار :
ألا قل لمن قد قام للسلم داعيا
وحشَّد جمعا للسلام مناديا
أتدعو بهذا من يفرُّ بدينه
ليحفظه فوق الجبال الرواسيا
دَعُونا نكبِّرْ ربنا جل شأنه
فلا ثالثا ندعوا ولم ندع ثانيا
دعونا نحصِّن ديننا بشعارنا
ونحفظه من شر كيد الأعاديا
فمعنى الشعار اليوم منهم براءة
وإعلاننا أنا لهم لن نواليا
وهل يحفظ الإسلام إلا برفضهم
وتطبيق آيات الكتاب المثانيا
وفي سورة الأنفال آخر صفحة
ترى عندها نوراً إلى الحق هاديا
تحذرنا من فتنة شاع شرها
وشر فساد المفسدين الأعاديا
وحذرنا في آل عمران رِدَّةً
بطاعتهم فاحذر ولا تك ساهيا
لذلك أعلنَّا الشعار ونالنا
به الحرب ممن كان بالحرب باديا
فهلا دعوتم بالسلام الذي بغى
وشردنا في مقفرات قواصيا
وقد جاء في الأمثال لوتُرِكَ القَطَا
لَنَاَم وكان الحال فينا مساويا
الوداع الأخير :
قبيل فجر الخميس 19 من ذي الحجة 1431هـ نهض (رضوان الله عليه) لأداء صلاة الفجر وتوضأ بالماء وضوءاً تاماً حتى أنه لم يرضَ لولده بأن يُعينه على غسل رجليه، وصلى صلاة الفجر من قيام، وفي تمام الساعة الثامنة والربع من صباح ذلك اليوم صعدت روحُهُ الطاهرة إلى بارئها راضيةً مرضية بعد حياةٍ زاخرةٍ بالجهاد والعطاء، والتفاني في سبيلِ الله ومن أجل المستضعفين، بعد أن اختطَّ للسائرين دربَ المسيرة القرآنية المحمدية، ومثَّلَ النموذجَ الصحيحَ للعالم الرباني، ورَسَمَ المعالمَ البارزةَ للمنهج الإسلامي المحمدي الأصيل، في رحلةٍ طويلةٍ مع القرآن الكريم تَرْجَمَتْ مفاهيمَه الإلهية إلى جهادٍ مستمرٍ وعملٍ مثمر ، فلم تَغمُضْ عيناه حتى رأى ثمرةَ جهاده في سبيل الله .
نزل هذا النبأ الأليم كالصاعقة على قلوب الجماهير المؤمنة والتي توافدت إلى محافظة صعدة من معظم المحافظات للمشاركة في مراسيم التشييع والعزاء، وتقاطرت المواكب من كل حدب وصوب متجهةً إلى مدينة (ضحيان) مسقط رأسه ومستودعِ جثمانِه الطاهر . وفي صباح يوم الأحد 22 من ذي الحِجة أَمَّت الجموع المحتشدةُ المكانَ المعدَّ للصلاة على فقيد الأمة في طوابيرَ منتظمة، وقبيل الصلاة وقف السيد عبدُ الملك بدر الدين أمام الجموع الغفيرة في كلمةٍ قصيرة عزى فيها الجميع برحيل هذا العالم الكبير .
على مِثْلِكَ الأَجْيَالُ تَبْكِي مُؤَبَّدا وَتَفْدِيْكَ بالأَرْواحِ لَو يْنفَعُ الفِدَى
فَيَومُكَ فِي التأريخ يَومٌ مُخَلَّدٌ بِهِ انْهَدَّ رُكْنُ الدِّيْنِ والبَغْيُ عَرْبَدَ
أَفَلْتَ وكنتَ البَدْرَ في حَلَكِ الدُّجَى بِنُورِكَ نَسْتَهْدِي الصـِّراطَ المُعَبَّدَ.
فسلامُ اللهِ عليه يومَ وُلد .. و يومَ تُوفي .. ويومَ يُبعثُ حياً
ـــــــــــــــــ
بقلم / عبد الرحمن محمد حميد الدين