عبدالعزيز البغدادي
هذه المقولة يعتقد البعض أنها آية قرآنية ويعتقد البعض الآخر أنها حديث نبوي، وقلة من يعرف أنها ليست آية ولا هي رواية، ومع ذلك فهي مقولة جارية على الألسن ضمن كثير من المقولات والحكم التي صارت جزءاً من الموروث الذي ساهم في اختلاط العادات بالعبادات، ولا أرى مشكلة فيما هو واضح من هذا الموروث، إنما المشكلة في اختلاط بعض المفاهيم ببعضها كما هو الحال مع هذه المقولة التي اختلط فيها نطاق الأولوية والمعروف ليشمل اعتقاد الحكام بعدم التفريق بين المال العام والخاص في امتلاكهم حق التصرف به لأقاربهم رغم أن من البديهي اقتصار هذا الحق على المال الخاص والحقوق الخاصة، إلا أن علاقة الحاكم الأول في الدول التي تدعي أنها دول إسلامية بالمال العام عبر التأريخ وإلى الآن ما تزال تعاني من هذا الخلط والاختلاط، وهذا مبعث التساؤل عنوان هذه اليوميات، والتأريخ حافل بالأمثلة على استمراء غالبية الخلفاء والرؤساء والملوك والأمراء هذا المنهج والتعامل مع المال العام وفق أهوائهم وأمزجتهم كأنه مالهم الخاص يتصرفون به كيف شاؤوا لمن أرادوا ودون حياء من الله، أما الناس فليس عليهم سوى السمع والطاعة، كيف لا والذي يسود علاقتهم بالحاكم أنه ولي أمرهم وسلطته على المال العام سلطة المالك طبقاً للتفسير الذي استند إليه معاوية ابن أبي سفيان وغيره من الدول السنية والشيعية على السواء الذين فسَّروا الآية الكريمة : (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) الآية (26) سورة آل عمران، وعند من يعقل فإن الآية تدل على أن المقصود هو الملكية الخاصة وليس العامة لأن المال العام والوظيفة العامة ملكية عامة وهي أمانة بين أيدي الحكام وفي أعناقهم لا يحق لهم التصرف بها للأقارب والموالين بالعطايا والهبات ومنح الرتب والدرجات الوظيفية دون مراعاة للمؤهلات والأقدمية والاعتماد على صلة القربى، ولا يرى الحكام أن الآية الكريمة المذكورة تحد من سلطتهم وتدعم مقولة (خيركم خيركم لأهله) جاهلين أو متجاهلين بأن هذا التصرف وتوريث الحكم جريمة يجتمع في وصفها السرقة وخيانة الأمانة والفساد، لماذا؟ لأن الوظيفة العامة والمال العام كما أسلفنا أمانة لدى من بيده السلطة والقرار يديرها وفق قواعد العدل والمساواة وبتطبيق الشروط القانونية والوظيفية الخاصة بذلك، فإذا لم توجد كما كان عليه الحال قبل وجود القوانين الحديثة، أي حينما كان الوصول إلى السلطة عن طريق الغلبة أي بالقوة وكانت الشعوب أتباعاً ورعايا، حتى في مسألة العقيدة ولهذا كانت مقولة : (الناس على دين ملوكهم ) من المقولات الشائعة، بل إنها تعني أن الشعوب عبيد الحكام، وهذا ما تدل عليه كلمة (ملوكهم) في المقولة.
وبتأمل هذه المقولات وتأويل الآيات والنصوص الدينية وتطويعها لإرادة الحكام نلاحظ أن البلدان المسماة بالإسلامية ما يزال فيها نظام المؤسسات في خانة الشعارات والأحلام، مع أن مسؤولية الحكام حتى في ظل هذا الوضع تتحدد وفق مبادئ العدالة والقانون الطبيعي، ومن يبررون للحكام ممارسة الظلم سواء في تأويل الآية المشار إليها سابقاً أو في مقولة : (الأقربون أولى بالمعروف) بهدف إيثار أقربائهم بالمناصب والعطايا واقعون في تلبيس إبليس، إذ لا يمكن أن يكون تصرف من بيده القرار بالمال العام كتصرفه بالمال الخاص معروفاً لأن فعل المعروف لا يكون إلا من مال الإنسان الخاص، وأمانة المسؤولية توجب على المسؤول أن يكون تصرفه بالإعطاء أو المنع وفق مبدأ العدالة والمساواة، وهو مبدأ يتوجب الدقة في تطبيق معاييره، وهذه مهمة صعبة ولكن مما يخفف من صعوبتها تطبيق القانون بحكمة وإحساس بأهمية مبدأ العدالة المتوازي مع مبدأ المساواة، ومعلوم أن هناك من الحكام في التاريخ من تعامل مع المال العام بدرجة عالية من الإحساس بالمسؤولية، فما روي من وقائع عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أيا كانت درجة صحة الرواية تبين أننا أمام حالات مذهلة من السلوك المترفع عن المساس بحرمة ما كان يطلق عليه بيت مال المسلمين، والذي يعني اليوم المال العام والوظيفة العامة، ومن هذه الوقائع أمره لزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان بإعادة ما لديها من مجوهرات وحلي لبيت المال لأن أغلبها كما رأى قد وهبها لها والدها الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان عم عمر بن عبد العزيز من بيت مال المسلمين، وهذا يعني أن هذا الخليفة الذي اشتهر بالعدل والزهد كان يدرك بأن المضاف والمضاف إليه في المصطلح ( بيت مال المسلمين) يدلان على أن ملكية هذا المال عامة أي لكل مواطن وأن يد السلطة العامة عليه يد أمانة وليست يد ملك .
خذوا من مرايا المداجين
بعض الهوى المتخثر
كفوا عن الهذيان
واعلموا أن يد الله فوق أيدي الطغاة.