السابقة العدائية لقريش في محاربة الرسول والإسلام معروفة، وعندما كان النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" في مكة، حاربوا الإسلام بكل الوسائل، على مستوى الدعاية، والإعلام، والحصار الاقتصادي، والتعذيب حتى القتل، البعض من المسلمون عذِّبوا حتى قتلوا تحت التعذيب،
وبعد هجرة النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" ومن معه من المسلمين، صودرت منازلهم في مكة، ونهبت ممتلكاتهم، وهم أخرجوا، هم أخرجوا، هجرتهم هجرة اضطرارية، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج: من الآية40]، فالعداء واضح، ومظلومية المسلمين واضحة، والحالة القائمة هي حالة صراع، وانضم إلى ذلك أيضاً هذا التهديد بالترتيب لعملية عسكرية شاملة لاستئصال المسلمين، فأمام هذا التهديد، أمام هذا الخطر، كان التوجيه من الله "سبحانه وتعالى"، والأمر من الله "جلَّ شأنه" لنبيه "صلوات الله عليه وعلى آله" وللمسلمين أن يتحركوا عسكرياً لمواجهة هذا التهديد، وفعلاً تحرك النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وكان من استجاب له ما يزيد على الثلاثمائة قليلاً، في بعض الإحصائيات يقولون: (ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً تحركوا معه)، ولأن المسألة في بداياتها مسألة صعبة، ومحفوفة بهذا الجو من التهديدات، وهو أول تحرك، فقد تقاعس الكثير عن التحرك، وتخاذل الكثير عن التحرك، وكان الجو نفسه في المدينة مشحوناً بالتثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، وقدَّم القرآن الكريم صورةً عن هذا الموقف، وعن هذه الظروف في قول الله "سبحانه وتعالى": {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: الآية49]، فالمنافقون نشطوا بنشاط دعائي للتخذيل وللتثبيط في داخل المدينة، وأرجفوا على الناس، وأنَّ هذا التحرك هو تحرك خطير، وأنه بالتأكيد له تبعات خطيرة، وسينتج عنه مشكلة كبيرة، وأن المسلمين لا يمتلكون القوة الكافية من حيث العدد، ومن حيث العدُّة لمواجهة هذا الخطر، والنتيجة الحتمية هي الهزيمة والنهاية.
وعندما لم يقبل النبي ومن تحرك معه من المسلمين هذا الإرجاف، ولم يتأثروا بهذا التهويل، ولم يقعدوا بسببه عن التحرك والاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، قالوا عنهم هذا التعبير: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، فهم يعتبرونهم من اغتروا بالوعود الإلهية، وصدَّقوا بها، وهي وعود بالنسبة للمنافقين والذين في قلوبهم مرض خيالية، لا يمكن أن تكون صحيحة، فلا يمكن لتلك القلة القليلة من المؤمنين المجاهدين، بإمكانياتهم البسيطة المتواضعة، من حيث الإمكانات المادية أن يحرزوا النصر.
{غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، ولم يحسب هؤلاء حساب التوكل على الله "سبحانه وتعالى"، الثقة بالله، التصديق بوعده "جلَّ شأنه"، إيكال الأمور إليه، والرضا بما كتب "جلَّ شأنه"، مع الثقة بصدق وعده، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}، هو "جلَّ شأنه" يعز أولياءه، وينصرهم، ويؤيدهم؛ لأنه العزيز، {حَكِيمٌ}، وتوجيهاته هي توجيهاتٌ حكيمة، ما يأمر به هو الموقف الحكيم، هو التصرف الحكيم، هو التوجه الحكيم، هو التصرف الحكيم عندما يتصرف الناس على أساسه.
إضافةً إلى ما كان لدى بعض المؤمنين في صفوف جيش النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" من القلق البالغ، إلى درجة الاعتراض، ومحاولة إثناء النبي عن التحرك والخروج، كما بيَّنته الآية القرآنية: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6]، فالبعض من المؤمنين كانت هذه التجربة الأولى بالنسبة لهم في إطار حركة الإسلام والجهاد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، كانوا قلقين جداً، وكانوا خائفين إلى هذه الدرجة التي عبَّر عنها النص القرآني: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، فهم في وضعية كانوا فاقدين فيها الأمل بالنصر، وكانت حالة اليأس من النصر بارزةً بالنسبة لهم، حتى كأنهم إنما كانوا يساقون إلى الموت، والإبادة الجماعية، وكأن المعركة ستكون نهايتها الحتمية هو القضاء عليهم.
ولكن النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" كان واثقاً بوعد الله؛ لأنه أتى وعد من الله "جلَّ شأنه": {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال: من الآية7]؛ لأن النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" عندما تحرَّك كان هناك أيضاً في المقابل تحرك عسكري، غير القافلة التجارية التي كانت قد عادت من الشام، وهي في طريقها إلى مكة، وكان أمل المسلمين أن يلتقوا بهذه القافلة، وأن يأسروا أبا سفيان، وأن يسيطروا على القافلة التي هي بهدف التمويل العسكري أصلاً، ولكن كان هناك أيضاً تحرك للجيش من مكة، خروج لقريش بشكل عسكري، بجيشٍ كبير، أكثر من عدد الجيش الإسلامي بعدد كبير، يعني: كان عدد الجيش الإسلامي ما يقارب الثلاثمائة والثلاثة عشر، أو أكثر من الثلاثمائة بعددٍ قليل، أما أولئك فكانوا ألف مقاتل، يمتلكون من العدُّة العسكرية ما لا يمتلكه المسلمون.
المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 16رمضان 1442هـ