عبد القوي السباعي
تحدث السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي –يحفظه الله– في خطابه يوم السبت، غرة ربيع الأول، لمناسبة تدشين فعاليات ذكرى المولد النبوي الشريف 1445هـ، -على صاحبها وآله أزكى الصلاة وأتمُّ التسليم-، وتطرق إلى الكثير من القضايا ذات الأبعاد الإيمانية والاستراتيجية، وعلى الرغم من كونها وفي مجملها كلمةً تؤسِّسُ الأرضيةَ الصُّلبةَ للانطلاقة الفاعلة والمؤثرة التي يتوجب على الأُمَّــة المؤمنة عبورها وتجسيدها على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي.
إلا أن هناك جزئية وردت في ثنايا خطابه؛ استوقفتني كَثيراً؛ والتي وجدت فكرتها تدور حول السنة التي رسمها الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، ومؤكّـداً ومخبراً عمّا حتمه وقضاه لعباده الصالحين، من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، بقوله جل وعلا: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
هذه السنة الإلهية، والمتضمنة وعداً إلهياً على المستوى الفردي والمستوى الجمعي، تجعل النظر إليها والوقوف أمامها أمر لا بُـدَّ منه، فمن خلال التحليل وفق المنهجية الجدلية التاريخية وتتبع دوران عجلة التاريخ، نرى أن مساره يفضي بنا إلى حتمية أن الأُمَّــة إذَا ما تبنت في انطلاقتها هذا المشروع العظيم، وعملت وفق ضوابط هذه السنة الإلهية، على الوجه الأمثل؛ فستنهض بها وتتعزز مكانتها وتتعاظم قدراتها، وترسخ فعاليتها، وبالتالي ستكون الأكثر تأثيراً بين الأمم، سواءً في حركة المجتمعات عسكريًّا أَو في السياسة أَو الاقتصاد، بل وفي حركة التاريخ ككل.
وفكرة أن يستخلف الله سبحانه وتعالى المؤمنين على الأرض، تحتاج إلى ضوابط وشروط، أشار إليها السيد القائد بقوله: “أمام كُـلّ هذا نحن معنيون بأن نجعل من هذه المناسبة المباركة محطةً تساعدنا في انطلاقتنا، وتساعدنا على التزود بالنور، بالنور الإلهي، من خلال قنواته المباركة: القرآن والرسول، وَأَيْـضاً نتزود الزكاء؛ لأَنَّ من أهم عطاء الرسالة الإلهية، هو ما تقدمه من نور، ومن تزكيةٍ للنفوس، وهذا أهم ما يحتاج إليه الإنسان، وأهم ما يسمو بالإنسان، وأهم ما يؤهل الإنسان لأداء دوره في هذه الحياة بكرامةٍ وبجدارةٍ كمستخلفٍ لله في الأرض، ويكسب له خير الدنيا والآخرة”.
ومما لاشك فيه أن منهجية الاستخلاف هذه، اسستها وسارت عليها كُـلّ الرسالات السماوية والشرائع الإلهية منذ أدم –عليه السلام– إلى النبي الأكرم محمد –صلى الله عليه وآله وسلم–؛ إذ لم تخرج عن هذه السنة الإلهية، ما دامت ملتزمة بضوابط قوتها وتفوقها، وهي السنة التي أكّـد السيد القائد أنه يجب على الأُمَّــة اليوم استلهامها في ظل الوضع الدولي الراهن، في قوله: “بإمْكَاننا من خلال كُـلّ عناصر القوة تلك، التي تختزنها هذه المبادئ الإلهية، والقيم الإلهية، نستفيد منها ومن خلالها تتحول كُـلّ التحديات وكل الصعوبات إلى فرص، وهذا متاحٌ لنا بمعونة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وبتوفيقه”.
لقد أراد السيد القائد من خلال هذه الذكرى العظيمة، العمل على استمرارية الارتباط بها؛ وأن تحدّد الأُمَّــة بوصلتها وتؤكّـد توجّـهها بعد أن أشار في سياق الحديث إلى أنهم، “يقولون في هذه المرحلة: تغيَّر وضع أمريكا في نفوذها العالمي، وفي هيمنتها على بقية الدول والشعوب، وأصبحت هناك بلدان أُخرى تنهض لتحتل لها وتتبوأ لها موقعاً خارج الهيمنة الأمريكية، والنفوذ الأمريكي”، وأردف متسائلاً: “فأين هي وجهة العرب أمام هذا؟ هل سيتجه الجميع نحو الصين، للالتحاق بها كبديل عن أمريكا، أَو إلى التحالف الصيني الروسي، أم كيف؟ أين هي وجهتهم؟”.
هُنا يؤكّـد السيد القائد على أن التوجّـه الحقيقي للأُمَّـة، وتبعيتها اليوم، يجب أن تكون مستقلة، “لا شرقية ولا غربية”، ما دامت تمتلك هذه المقومات وتلك العوامل، المؤهلة لتشكيل قطباً خاص بها، وقوة متفردة بذاتها، وكأنه يدعونا إلى مراجعة دوران العجلة التاريخية وحركتها ومتغيراتها، لكي نستحضر في عقولنا؛ ومن خلال ذكرى المولد النبوي، كيف كانت البشرية يوم مولده؟، كيف هي البدايات الأولى لدعوته؟ مُرورًا بهجرته؟ وكيف انتشرت الدعوة واجتاحت كُـلّ القوى التقليدية المحلية والعالمية التي عاصرتها؟ وعن كيفية تمكين الله للمؤمنين واستخلافهم في الأرض، وفق ضوابط السنة الإلهية تلك.
ولو أخذنا على سبيل المثال؛ حادثة ضرب النبي الأكرم (ص)، للصخرة التي أعاقت المسلمين من التقدم اثناء حفرهم للخندق، فبثلاث ضرباتٍ منه، تفتت الصخرة، وبشرهم أنه رأى في الأولى قصور صنعاء والتالية قصور كسرى وفي الأُخرى قصور قيصر، هذه البشارة جعلت المؤمنين يهللون ويكبرون فرحاً ويقيناً منهم وإيماناً وتصديقاً بتحقيقها، فيما نظر قليلو الإيمان إليها بالسخرية والهمس واللمز، وحدثوا أنفسهم “كيف لأشخاص خائفين مترقبين العدوّ في أي لحظة، علاوة عن كونهم قلةً ومحاصرين وجوعى؟ أن تراودهم مثل هكذا أماني..؟ لكن ما الذي حدث؟.. انتصر هؤلاء المستضعفون، وتحقّقت أمانيهم، بل وحازوا أرضاً ما كانوا حتى يحدثون أنفسهم في أحلام يقظتهم، وكل ذلك حصل وفق التزامهم بضوابط السنة الإلهية في الاستخلاف والتمكين.
والمتأمل لحركة التاريخ سيرى أَيْـضاً، أنها نفس الضوابط التي سارت ويسير عليها اليوم المشروع القرآني الجهادي الثقافي للمسيرة القرآنية، كامتداد حقيقي لمنهجية الإسلام المحمدي الأصيل، والذي يعتبر المتغير التاريخي المعاصر والناظم للأُمَّـة في حركتها التاريخية، المتجسد للمنهجية الإلهية التي تضمنتها الرسالات السماوية، بل وحمل ومنذ بدايته الأولى، نفس المسار في الصبر والثبات على المنهج وتحمل العديد من المعاناة منها: “القلة والاستضعاف والاضطهاد والاستهداف بشتى الوسائل والأساليب”، وهو ما يمكن للباحث أن يلاحظ إذَا ما قارن ذلك وسيجد الكثير من الأوجه المتشابهة سواءً مع بداية الدعوة المحمدية أَو فيمن سبقتها من الدعوات.
وُصُـولاً إلى تفاقم التوجس والقلق لقوى الاستكبار والاستغلال الإقليمية والعالمية، والتي باتت غير قادرة فعلاً على مواجهة هذا المشروع، رغم محاربته طوال السنوات الماضية، وهو الأمر الذي نوّه إليه السيد القائد، بالقول: “أمام هذه التغيرات والمتحولات، يجب أن تكون وجهتنا قائمةً على أَسَاس انتمائنا للإسلام، نحن أُمَّـة إسلامية، تمتلك كُـلّ المقومات، وكل العناصر اللازمة لأن تبني نفسها لتكون أُمَّـة لها اتّجاهها المتميز، المبني على أَسَاس انتمائها العظيم للإسلام، وللرسالة الإلهية، وللمبادئ الإلهية، وللقيم الإلهية، ومهما كان حجم المؤامرات علينا، مهما كانت التحديات”.
وعليه، فحين يجزم الكثير أن السيد القائد تعمد في ثنايا خطابه إطلاق تلك البشارة في هذه الذكرى، وفي هذا التوقيت بالذات، وأحرار اليمن يحتفون بالذكرى التاسعة لثورة الـ21 من سبتمبر، ليس استدعاءً للخرافة أَو التكهن، بل إيماناً ووعياً بالسنن الإلهية، التي تعيد تدوير عجلة التاريخ وفق مقتضياتها المرسومة من قبل الله سبحانه، والتي هيئة لمتغير استراتيجي ينطلق في مسارٍ متصاعدٍ يحمل العديد من المفاجآت اليمنية، على أكثر من صعيد، انطلاقاً من ذلك البعد الإيماني الراسخ، المتميز بجرأةٍ استثنائية لخوض غمار معركة ستعيد لليمن مكانته وحضوره التاريخي المعهود، متكئا على إرث الماضي، ومستحضراً هُــوِيَّته الإيمانية الأصيلة، ومعززاً بضوابط السنة الإلهية، والتي ستظهر نتائجها وتجلياتها تباعاً، وعما قريب، وفق يقينيات الحقيقة القرآنية الإلهية التي تعد المؤمنين الصالحين بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض، والعاقبة للمتقين.